الرئيسية | أقلام حرة | محاضرة حول القيادة الأخلاقية... !!

محاضرة حول القيادة الأخلاقية... !!

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
محاضرة حول القيادة الأخلاقية... !!
 

 

دخلت إلى قاعة المحاضرة. شعرت بالخجل لأنني وصلت متأخرة جدا و ترددت  قليلا قبل ان ادخل. كنت أتمنى أن أجد أجوبة على أسئلة تأرقني. المحاضرة كانت حول " القيادة الأخلاقية".   كنت اتوقع حضورا كبيرا و لكن القاعة كانت شبه فارغة، ممتلئة خاصة بالطلبة و ببعض الأساتذة و بعض مهندسي القطاع العام. بعض الوجوه كانت مألوفة بالنسبة إلي. إذ سبق لي أن صادفتها في دورات تكوينية سابقة أو في بعض الندوات و المؤتمرات. هذا الأمر جعلني أشعر بالألفة و الاندماج.  المحاضر كان  قد و صل إلى نهاية العرض ليفتح المجال لمناقشة القاعة. لخص موضوع القيادة الأخلاقية في بعض النقط التي ظلت عالقة في ذاكرتي. مثلا أن القيادة الأخلاقية و بعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي ابتليت بها الإنسانية أضحت ضرورة ملحة. إذ حسب قول المحاضر  فالشركات الأمريكية أصبحت ترجح في اختيار موظفيها  معيار الأخلاق و المبادئ على الكفاءة ،  لأنهم اكتشفوا أن الكفاءة بدون أخلاق تكبد المؤسسة خسارة فادحة. و أن الثبات على المبادئ يعني الالتزام بما نؤمن و نفكر فيه. و ضرب مثل من نشأ في أسرة تمارس الكذب باستمرار، و تحتسي الشراب علانية و تمارس الخيانة الزوجية طواعية، بأنه لن يشعر بوازع أخلاقي أو تأنيب ضمير عندما سيمارس نفس هذه السلوكات  لأنه سيكون منسجما مع نفسه و محيطه. و بالمقابل من ينشأ على قيم الصدق و الأمانة و الأخلاق الحميدة فإنه سيعاني كثيرا في كبره لو انحرف على مبادئه، و الدليل هو ما نجده في بعض الأشخاص الذين يحاولون الإفراط في الشراب و يعانون الأرق ليلا لأنهم غير راضون عن ممارساتهم المخالفة لنشأتهم و فطرتهم.

أثناء تفاعل القاعة مع مضمون المحاضرة، أخذ أحد المهندسين الميكرفون.  كنت قد تعرفت عليه  سابقا في دورة تكوينية. تكلم عن تجربته، و كيف أنه اختار مبادئه على طموحاته المهنية. إذ كان له منصب مهم و تعرض لضغوطات عدة من طرف رؤسائه  للتوقيع على صفقات غير قانونية و لكنه رفض أن يذعن.  مساره المهني كان ثمنا قاسيا دفعه لأنه اختار أن يقول لا و أن يلتزم بقناعاته. و لكنه يؤكد أنه غير نادم على منصبه و بأنه سعيد و هو يمنح معظم وقته  و جهده لأسرته.

القاعة صفقت بحرارة على تضحية المهندس و التزامه بمبادئه. أما أنا شعرت بغضب عارم غير مفهوم. كنت أدرك أنه غير سعيد و لكن يحاول الهروب و الاحتماء بدفء الأسرة.  كنت أقرأ الحزن و الانكسار في عينيه. فكرت أنه لا يوجد خيار مثالي. إذا اخترت مبادئك ستتعذب و إذا لم تختر مبادئك ستتعذب. إنها معادلة بدون حل.

تذكرت مقطع من كتاب أوباما  " أحلام من أبي قصة عرق و إرث"، و هو يستمع إلى أخته من أبيه "أوما" و هي تحكي له عن أبيه الذي لم يره إلا مرة واحدة. هذا الفراق الذي جعله ينسج حكايات مثالية عنه فكان يراه بصورة المثقف الذكي و الصديق السخي و القائد المستقيم.

اما اخته اوما التي عاشت معه فكان لها سرد أخر. اوباما الأب كان يحظى بإعجاب الجميع لأنه حصل على قدر هائل من التعليم من خارج البلاد كما كان متزوجا من أمريكية و هو أمر نادر جدا في كينيا.

ففي السنوات الأولي كان يعمل في شركة بترول أمريكية. و كانت له علاقات جيدة مع كبار المسئولين في الحكومة لأن أغلبهم زملاء له في الدراسة. إلا أن الأمور سرعان ما تغيرت. إذ ترك الشركة الأمريكية ليعمل في وزارة السياحة. في البداية الأمور سارت على ما يرام.  و كان يملك منزلا كبيرا و سيارة فارهة. و لكن الانقسامات في كينيا أصبحت أكثر خطورة ففاضت الحكومة بالدسائس و ظهرت الصراعات القبلية. 

 

صمت معظم أصدقاء أوباما وسط الأحداث و لم يحركوا ساكنا و تعلموا التعايش معها، لكن أوباما الأب عبر عن موقفه جهرا و قام بإخبار الناس بأن النظام القبلي في طريقه إلى تخريب البلد و أن أفضل الوظائف باتت تمنح لغير الأكفاء. وصل الأمر إلى الرئيس بأن أوباما من مختلقي المشاكل. فاستدعاه و طلب منه أن يغلق فمه. و بعدها طرد من الحكومة و وضع اسمه في اللائحة السوداء.و وجد صعوبة في الحصول على وظيفة في القطاع الخاص. و عندما وافق بنك التنمية في تعيينه في أديس بابا قامت الحكومة بسحب جواز سفره.

و في نهاية الأمر اضطر إلى قبول العمل في وظيفة متواضعة في وزارة الري. و ساعدت هذه الوظيفة في توفير الطعام و الشراب و لكنها كانت بمثابة الضربة القاضية. فأفرط أوباما الأب في شرب الخمر، و توقف كثيرون من معارفه عن زيارته لأن رؤيتهم معه أصبحت من الأمور الخطيرة أنذاك، و أخبروه أن حياته ستتحول إلى الأفضل إذا اعتذر و غير من مواقفه، لكنه رفض و استمر في قول كل ما يخطر بباله.

تحولت حياة اوباما الأب و اسرته إلى جحيم، فتخلت عنه أسرته، و أصدقاؤه، كما أصبح عنيفا و مفرطا في الشراب. فقط ابنته أوما من استمرت في العيش معه وفقط لأنها لم تجد بديلا أخر.

أوباما الأب كان يشعر بالتعاسة و بأنه تعرض للخيانة أما ابنته أوما فإنها لم تستطع أن تفهم لماذا دمر أبيها حياته و حياتها و حياة أسرته. فبينما زملائه في سنه ممن يتمتعون بالذكاء السياسي استطاعوا أن يتسلقوا المناصب، فإنها كانت تعيش مع أبيها في منزل حقير في جزء خطير من المدينة مشهور بجرائمه.

أما أوباما الإبن ، عندما سمع حكاية أبيه من أخته فإنه شعر بأنه كان مخدوعا في أبيه. لأنه في النهاية لم يكن إلا شخصا سكيرا و زوجا بذيئ اللسان و موظفا حكوميا مهزوما و وحيدا. و تساءل أوباما الابن  بحيرة  في كتابه ، عن ماذا سيقف في طريق خضوعه للهزيمة نفسها التي أطاحت بوالده؟

أوباما الأب تعرض لكل ما تعرض له، لأنه ظل ملتزما بمبادئه، جاهرا بأفكاره ، و لم يخضع أو يغير مواقفه و هو في أحلك الظروف، مما يدل أنه فعلا قائد مستقيم و أخلاقي. و لكن لا أسرته، و لا عائلته و لا أصدقاؤه و لا حتى ابنه أوباما الممتهن للسياسة ، استطاعوا ان يفهموا و يستشعروا هذا الأمر في الحياة الواقعية الاعتيادية اليومية. فهو على أرض الواقع، بدى إنسانا تعيسا و بائسا.  

و بينما دماغي مشوش، يفكر في هذه الأمور المتشابكة مع بعضها البعض، و أتساءل بحيرة هل يوجد خيار أمثل. أخذت الميكروفون لأطرح سؤالا:

 -   كنت قد قرأت بأن المسلم في بلد الكفار يمكنه أن يتظاهر بالكفر من أجل البقاء. و هو ما قام به الموريسكيون ليصمدوا في الحياة لقرون طويلة. فلو كانت مبادئك تتعارض مع محيطك فكيف يمكنك أن تتصرف؟ فلو تخليت عن مبادئك ستتعذب. و لو اخترت مبادئك ستتعذب. كيف يمكنك أن تتجنب العذابين؟

- فأجابني بدون تردد: " هاجري"

 

نظرت إلى عينيه و شعرت أنه هاجر إلى كندا ليدرس و يشتغل هناك لذات السبب.

مجموع المشاهدات: 1685 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة