الرئيسية | أقلام حرة | ماذا بعد الحركات الإسلامية؟

ماذا بعد الحركات الإسلامية؟

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
ماذا بعد الحركات الإسلامية؟
 

 

سادت لدى كثير من الدارسين والإسلاميين نظرة قاصرة للمجتمعات المسلمة ما بعد سبعينات القرن العشرين، مفادها أن التيار المهيمن على الساحة الاجتماعية بهذه المجتمعات هو التيار الإسلامي، مستندين إلى رصد مظاهر محددة للتدين؛ مثل ازياد عدد المساجد وعمارتها وروادها، زيادة نسب التدين الطقوسي لدى الشباب خاصة الطلبة، الاستعراضات الجماهيرية للإسلاميين وغيرها. لكن وقع الصدمة المزدوجة الأخيرة على هذه المجتمعات والمتمثلة في فجائية الثورات العربية من جهة، وحجم الثورة المضادة التي تعرضت لها خيارات الشعوب، أظهرت أن التيار الإسلامي يقع على هامش المجتمعات المسلمة الحديثة، وأنه يفتقد إلى الكثير من الرافعات السوسيوثقافية التي تدفع به إلى التمدد الأفقي والعمودي داخل المجتمع، ولا نعني بالهامش هنا ما روجت له السردية السوسيولوجية العربية من وجود علاقة إيكولوجية ثقافية حضرية بين النزعة الإسلامية والوسط المعيشي الفكري لفقراء الحضر، أو ما دعي بترييف المدن؛ بل أقصد بالهامش الوقوع على جنبات الفعل الاجتماعي حيث تبدو التيارات الإسلامية منفعلة بالأحداث والتحولات غير فاعلة في أوساط  المجتمعات المسلمة، غير قادرة على إنتاج خطاب متماسك ينطلق من رؤية شمولية ومتخصصة في نفس الآن لإشكاليات التراث العقدي والفقهي والفكري والسياسي وتحديات الإصلاح والتغيير الواقعية. إذ دخلت هذه التيارات في حالة سيولة كبيرة فيما يتعلق بالإجابات على أسئلة التصورات التراثية وسبل الاستجابة للتحديات المعاصرة. ولا يعني هذا الاتجاه سير هذه التيارات نحو الاضمحلال بحسب أطروحة "أولييفهروا" التي استشرفت نهاية الإسلام الأصولي ذي المرجعية الدينية الرافضة لسيادة العلمانية، بل يدل على أنها هذه التيارات ستدخل، أو دخلت بالفعل، حالة من الإحباط والتخبط والأفق المسدود، لكن التحولات المتسارعة إيديولوجيا وسياسيا وسوسيوثقافيا التي تعرفها المجتمعات المسلمة، تجعل من الصعب استجلاء الصورة الحالية للتيارات الإسلامية واستشراف مستقبلها، ويجعل من المبكر التوصل إلى خلاصات نهائية بشأنها، فنحن مقبلون على واقع أشد تعقيدا وتركيبا، وأبعد عن الهدوء والاستقرار، وستكون تقلباته وموجاته أكبر من أن تلاحقها عين الرصد والمتابعة. لكن يظهر أن طبيعة تشكيل العقلية الإسلامية المعاصرة المسكونة بالهاجس السياسي، ستدفع بها أكثر فأكثر نحو الانغماس في الفعل السياسي سواء على الطريقة الإصلاحية أو الثورية، وستتراجع حدة الاهتمام بالانشغالات الفكرية والدعوية والتربوية، وستبدأ هذه التيارات في استيراد الأجوبة لما يعتري مسارها من اليمين واليسار، ما سيكون مدعاة لمزيد من تشظي الحالة الإسلامية ودخولها مرحلة التخبط مع التحولات الجارية، حيث أن هناك قضايا بدأت بالتحريم وانتهت هذه التيارات ليس إلى تحليلها بل تبنيها، ولا يتعلق الأمر هنا بمجرد برغماتية سياسية فقط، بل بعجز العقلية الإسلامية على استيعاب التغيرات وفقه النوازل المعاصرة، حيث تظل أسبقية الحركة على التفكير السمة المميزة لها.

هذا الطرح الذي نروم استجلائه في هذه الورقة لا يعني استشراف نهاية التيار الإسلامي من الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية، بل يرصد تجليات الأفول والتراجع الذي ستعرض له كقانون طبيعي ناظم لتطور الأفكار والحركات، حيث تفقد هذه التيارات اليوم الكثير من قوتها الدافعة للاستمرارية ودوام التحقق التي تمتعت بها لحظة انطلاقتها وازدهارها، وتتجلى معالم هذا التراجع في: التشظي المرجعي والبنيوي، ضيق الانتشار وفقدان الأنصار، الفقر الرمزي والخطابي، هامشية التأثير والفعل؛ فالتيار الإسلامي بمختلف فصائله على هامش المجتمع من حيث المساحة التي يحتلها كميا ونوعيا، وإن كانت بعض مؤثراته تصل إلى المجتمع في صورة أفكار جزئية وعلاقات ومظاهر سلوكية بشكل أوسع من قاعدته العددية. هذا التراجع والأفول لن يكون لحساب تيارات سياسية أو إيديولوجية منافسة، بل سيملأ هذا الفراغ نوعين من التيارات البديلة:

- تيار التدين النفعي: أو ما سماه الباحث "باتريك هايني" إسلام السوق، وهذا التيار يستند إلى الربط بين أنماط معينة من التدين الإسلامي والأسس الفلسفية للسوق مثل النزعة الفردانية، والانفتاح، وأولوية الشأن الخاص على العام المرتبط بالدولة، والشبكة، والعولمة، ونزعة الاستهلاك، والتخلي عن السرديات الإيديولوجية الكبرى ...إلخ. (انظر: إسلام السوق، باتريك هايني، ترجمة عومرية سلطاني، مدارات للأبحاث والنشر،  ص. 26.)

- تيار الفجور السياسي: بتعبير المرحوم فريد الأنصاري ويعني به: "الفساد الخلقي الشامل، المدعوم سياسيا، من جهات سياسية وثقافية شتى. هذا الجمهور العريض المفتون في دينه، الجاهل بإسلامه، الغارق في شهواته، اللاهي عن الدين وأهله. هذا الجمهور الذي يتضاعف كل يوم أضعاف ما يتضاعف المنخرطون في صف الحركة لإسلامية والدائرون في فلكها من المتدينين". (الفجور السياسي والحركة الإسلامية في المغرب، دراسة في التدافع الاجتماعي، فريد الأنصاري، منشورات الفرقان، كناس، ص. 14.) ويبدو أن التيارات العلمانية قبلت بهذا التيار بعدما لم تنجح في تسويق صورتها الإيديولوجية الشاملة، لكنها تضمن على الأقل انتشار الفجور الأخلاقي المسيس والسعي إلى تدني حالة التدين المجتمعي العام حتى تثبت قدرتها النسبية على وقف مسلسل أسلمة المجتمع.

لكن السؤال المطروح ما هي تجليات هذا التراجع والأفول والعوامل التي أدت إليه؟

التشرذم والتفرق المنهجي والبنيوي

 إذ لا يمكن لتيار أن يحافظ على جاذبيته وصلاحيته للتوسع مع هذا الكم الهائل من التفرق والتناحر، فالحركة الإسلامية التي برزت في البداية متآلفة متوافقة في خطوطها العامة، شهدت بعد ذلك نزاعات وانشقاقات تحت وطأة التحديات الجسيمة التي تعرضت لها، ومواقفها من القضايا الساخنة في التراث والواقع. وهذه الحالة لا تنسحب فقط على الجانب التنظيمي الذي أغرق بالكثير من الأحزاب والجماعات والتنظيمات، بل يشمل الممارسة العملية في القضايا الكبرى المتصلة بالتغيير والإصلاح، وصولا إلى الإطار المنهجي الناظم لها حيث تتسع شقة الخلاف حول كثير من الأصول العقدية والفقهية التراثية. فهذه التيارات لم تنجح في إنشاء تنظيم مركزي كبير وقوي، والمثال عليه حركة الإخوان المسلمين التي تتعرض لانشقاقات واسعة كل محطة مفصلية من تاريخها، وعجزت عن بناء شبكات صغيرة فعالة من المجموعات التخصصية المترابطة الأهداف. وهذه الوضعية طبيعية في تاريخ الأفكار والحركات، لكنها تصبح مشكلة عويصة إذا لم ترشد بفقه الخلاف والاختلاف، وبوجود ثقافة الاعتراف المتبادل، ذلك أن من ينضم لفصيل إسلامي معين حتى يكون همه الأساسي إثبات مخالفة المنتمين للفصيل الآخر وانحرافهم عما يراه المنهج الحق، ما يؤثر على جاذبية التيار العام بتنوعاته الداخلية ويحد من قدرته على الانتشار. بل إن التيارات الإسلامية المعاصرة أضافت إلى إرث الإسلام التاريخي من الفرق والمذاهب والأقليات معضلة أخرى، تتمثل في إنتاج تنظيمات بألوان طائفية جديدة قائمة على هدف إلغاء الآخر الإسلامي المخالف لها ونزع الشرعية عن وجوده أو تمثيله للمرجعية.

فقدان الخطاب الإسلامي المعاصر كثير من الجاذبية والصلاحية

إن اتساع شقة الخلاف والنزاع بين التيارات الإسلامية أدى إلى إنتاج كم هائل من الأجوبة حول الأسئلة المتعلقة بالواقع المباشر، هذه السيولة في الأجوبة خرجت عن نطاق السائغ الاجتهادي المصلحي، ودخلت التيارات في مرحلة تصارع وتناحر حول إجابات الأسئلة الحيوية مع تراجع في مساحات الإعذار والقبول. وما عادت الأجوبة العامة الفضفاضة من قبيل شعار "الإسلام هو الحل" وغيرها قادرة على الجذب وكسب الأتباع، والذي أوصل الحالة الإسلامية إلى هذا المنزلق الخطير يكمن في اختلاف الإجابة على التحديين الأساسيين اللذين واجهتهما التيارات الإسلامية؛ وهما: التحدي الحضاري، والتحدي السياسي.

فمن جهة التحدي الحضاري المتمثل في الاكتساح الواسع للثقافة الغربية الغالبة مناطق النفوذ المجتمعي الإسلامي معززة بأدوات القوة الإعلامية والثقافية، ركن الخطاب الإسلامي في عمومه إلى نمط المواجهة الوعظية في وقت اختلت فيه موازين القوى بين حضارة صاعدة وحضارة آخذة في الأفول، إذ تبنى هذا الخطاب موقف الرفض للمنتوج الحضاري الغربي وطرح نفسه كبديل عنه، ودخل في مواجهة ساخنة مع التيارات المتبنية لهذا المنتوج من داخل المجتمعات المسلمة. لكن منظومة الثقافة الأصولية الإسلامية المعاصرة بخطابها الأخلاقي والتشريعي والسلوكي فضلا عن آلياتها الإصلاحية لا تستطيع تقديم بدائل منافسة لها شديدة الضراوة والتأثير برعاية إعلامية وسياسية وقابلية نفسية لدى الناس. فبعض التيارات الإسلامية اتجهت إلى الانخراط المتفاعل بشكل متزايد مع المنظومة الثقافية الغربية ما أدى إلى ولادة تيار الاندماج والتطبيع مع الرأسمالية والعلمانية في صفوف كثير من المنخرطين في صفوف الصحوة الإسلامية، ومن جهة أخرى اتجهت بعض التيارات إلى الراديكالية والانغلاق على التراث وتبني الخيار القتالي في مواجهة التحدي الغربي، ويمثل هذا التيار في أقصى انغلاقه وتطرفه تنظيم "داعش"، والذي دفع بالتيار الجهادي إلى حالة يائسة، ما عدا قادرا فيها على تقديم نفسه مشروع تحرير أو مقاومة أو إصلاح، بل صار نموذج أزمة ومشروح حالة توحش وارتداد حضاري.

أما فيما يخص التحدي السياسي فإن التيارات الإسلامية وإن ركزت على خاصية الأصالة والخصوصية فإنها في الواقع لم تعمل إلا على إعادة إنتاج المفاهيم المتداولة علمانيا وحداثيا وصبغها بآلية التأصيل، فالخطاب الإسلامي صار مسكونا بالهاجس السياسي إلى أبعد الحدود، وهو الأمر الذي فرضته السلطة المعرفية الغربية، لذا تجمع كل فصائل التيار الإسلامي على أن التغيير والإصلاح لا يمر إلا عبر السيطرة على الدولة، وهذا ما أدى إلى ولادة أطروحتين متناقضتين داخله:

- الأطروحة التنظيمية: ممثلة بجماعة الإخوان المسلمين وتوابعها وروادفها، والتي اختصرت المشروع الإسلامي كله في فكرة التنظيم وظلت حبيسه أدراجه غير قادرة على الانفكاك من إساره.

- الأطروحة السلفية: التي تطرح فكرة العودة إلى الأصول والمنبع الصافي، بنظرة إلى المجتمعات المسلمة على أنها "جاهلية" أو على الأقل "خارجة على المرجعية الإسلامية"، وأنتجت لنوع من التيارات الطهرانية التي تعمل على فصل الدين عن الثقافة من خلال إقصاء البعد الأنثروبولوجي في التفكير راكنة إلى مقولات التبديع والتفسيق، مع ترك الشأن السياسي لأهله مؤكدة على وجوب الولاء للسلطة مهما كانت ممارساتها. فأنتجت هذه الأطروحة نموذجا للتدين غير قابل للاستمرار، لأنه غير قادر على الاستجابة لخصوصيات وحاجيات كل مجتمع مسلم وتحولاته، وهذا النزوع السلفي يقضي بتنميط المجتمعات الإسلامية وهو أمر غير ممكن.

الفقر الرمزي

إن من أهم مقومات استمرار وجاذبية التيارات والأفكار هو قدرتها على تسويق نفسها في السوق الرمزية، فالرمز بحمولاته الثقافية الدينية هو القادر على مواجهة معضلات الواقع المعيش بحلول مبدعة يمكن أن تساهم في مسايرة حركة التغير المستمرة والمتدفقة. لكن ما يلاحظ أن الخطاب الإسلامي مازال حبيس أشكال التدين التقليدية التي تحولت فيها الشعائر إلى طقوس شكلانية فارغة من المحتوى الروحي والمضمون القيمي، وطغت على هذا الخطاب نمطية الوعظ الذي يتولى نجوميته خطباء ودعاة فقدوا كل أشكال التواصل الحديث مع جماهيرهم، غارقين في مشاكل الماضي غير عابئين برهانات الحاضر والمستقبل، يعملون على تأجيج الصراعات الطائفية والخلافات المذهبية. إن الخطاب الإسلامي نظرا لخصوصيته يجب أن يكون متعدد الوسائط والأبعاد، ويتطلب توظيف الرمز الديني الإسلامي اليوم مجهودا أكبر لترجمته ليكون قادرا على التفاعل بين مقاصد النص الديني وتحولات الواقع المعاصر. ولكي يحقق الخطاب الإسلامي هذه النقلة النوعية يجب عليه أن يأخذ من بلاغة النص الأدبي بكل أبعاده، ومن التداولية باعتبارها المخزون الثقافي المشترك للمجتمعات باستدعاء الثقافة الشعبية بكل مكوناتها، ومن العلم باستغلال رصيده المنطقي العقلاني من مواضع وآليات حجاجية، إلى جانب استثمار الأبعاد الإيقونيةالإيديوغرافية.

إن الوعي بمقتضيات الواقع المعاصر ومعطياته، وما طرأ من تغيرات أصابت الأنساق المعرفية والرمزية المنتجة لكل أشكال الخطاب، يتطلب قراءة واعية لإشكالات الاقتصاد الثقافي بطرح خطاب ديني إسلامي قادر على تسويق ذاته في المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، ومن مواصفات هذا الخطاب: تجاوز نموج الخطاب الديني الأوحد بمعنى أن المشروع الإسلامي الجديد يجب أن يكون متعدد الجنسيات عابرا للقارات متحدثا بكل اللغات متلونا بحسب العادات والتقاليد والفئات متنوعا بحسب الحضارات. المراجعة التأويلية للمنتوجات الدينية (تفسيرات القرآن، فتاوي، خطب الجمعة ...)، مراجعة تتطلب الانتقال من التمجيد المسبق إلى النقد والمراجعة والتدقيق، وتجاوز المنهجيات التقليدية والاعتماد على الاستفادة من منجزات ونتائج العلوم الاجتماعية والسياسية والتجريبية. إيجاد حل منهجي لإشكالية ارتباط الدين بالعنف سواء المادي أو الرمزي، فتاريخ الأديان كلها مثقل بالعنف، والفكر الديني الإسلامي لم يسلم منها، حيث احتكر كثير من المسلمين موقع الوصاية على المسلمين والمسؤولية على أخطائهم من منطلق التعالي وتمثيل المقدس وقدسية المرجع ونهج السلطة الأبوية.

إن الخطاب الإسلامي يتحرك اليوم داخل سوق ثقافي عام يتعدد فيه الفاعلون وأشكال فعلهم، وحتى هو نفسه غارق في هذا التعدد، لذا عليه أن ستعيد الثقة الرمزية للشعوب المسلمة، ويضمن فتح قنوات التواصل مع غير المسلمين، ولكي يحقق هذا المسعى عليه أن يتجاوز حدود المبادرات الفردية المعزولة ويدخل نطاق المأسسة وإنشاء مراكز البحث والرصد الاستراتيجية.

افتقاد قنوات الدعم وصعوبة التسويق

 يلاحظ أن الحركات الإسلامية في الآونة الأخيرة بدأت تفتقد للكثير من الدعم والمساندة من أوساط مجتمعية مختلفة ومتباينة؛ ومن تلك العوائق التي تواجهها: قطيعتها مع المؤسسات الدينية الرسمية والعاملين فيها، رغم أنها في بداية ظهورها عاشت نوعا من الوفاق معها بل وتولى بعض كواردها قيادة هذه المؤسسات (خاصة دول الخليج العربي)، واليوم انتهى الأمر إلى ما يشبه حرب وجود بين الطرفين. التضييق الحكومي على أنشطة التيار الإسلامي وافتقاد داعمين حكوميين (ما عدا تركيا وقطر وإمكانياتهما ضعيفة في هذا المجال)، وصولا إلى محاولة الاجتثاث الشامل من بعضها (مصر والإمارات). تنامي نزعات الإسلاموفوبيا لدى الحكومات والمجتمعات الغربية خاصة بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر، وما جرته على عموم هذه التيارات من ملاحقة وتشويه. توجس طبقة الرأسماليين الكبار من هذه التيارات. انخراط بعض التيارات في حملات مواجهة مظاهر التدين الشعبي ودخولها في نزاع وجودي مع ممثليه خاصة شبكات الصوفية التي ابتعدت عن هذه التيارات وناصبتها العداء في كثير من الأحيان. وحتى الفئات المحسوبة من طرف الأدبيات السوسيولوجية باعتبارها من زبائن التيارات الإسلامية، خاصة المنحدرة من الطبقات الوسطى والفقيرة، لم يعد يلائمها المنحى النضالي المكلف لهذه التيارات، حيث أن وضعيتها الاجتماعية تفرض عليها تبني نمط حياة غير رسمي يقوم على التبادلية والتفاوض والثقة، وليس على القواعد والتعاقدات الثابتة التي تفرضها هذه التيارات. كما أن أسلوب الكفاح الإيديولوجي الذي تتبناه يتطلب قدرات نوعية (الوقت، المخاطرة، المال، المستوى التعليمي)، وهو ما لا تملكه كثير من هذه الفئات، والتي لجأت إلى تبني أشكال نضال محلية تحتية تخدم أغراضها اليومية السريعة بعيدة عن المشاريع الإيديولوجية الكبرى إسلامية أو علمانية كانت.

تحولات الدولة والسلطة في العالم الإسلامي

مرت الدولة وخاصة جهاز في العالم الإسلامي منذ لحظة الاستعمار إلى اليوم بتحولات جذرية وعميقة، غيرت كثير من المعادلات التي كانت تضبط علاقة المجتمع الأهلي بالسلطة عبر التاريخ الإسلامي، فالتنظيم السياسي الذي أخذت به هذه الدول منذ عهد الاستعمار كان ولا يزال سلطويا قمعيا، واقتباسها للشريعة كنمط حكم في بعض الدول لم يكن جادا في الالتزام بالشريعة الأصلية، بل أسيئ استخدامها سياسيا، ما جعل الدعوة المعاصرة إلى تطبيق الشريعة تمنى بفشل سياسي وقانوني ذريع في أغلب الدول (السودان، أفغانستان، إيران، باكستان ...). لذلك فإن الحركة الإسلامية في فعلها السياسي ظلت محكومة بخيارين: إما قبول الإدماج في بنية الدولة الحديثة مع ما يعني ذلك من التخلي عن كثير من الأصول وقواعد المقاومة للنموذج الأخلاقي والثقافي للدولة الحديثة حتى يتم اعتمادها محليا وغربيا، وإما البقاء على هامش الدولة والمجتمع والتحول لتيار رافض ثوري. وكلا الخيارين لهما نتائج محددة، لكن هناك نتيجة أكيدة في كلا الحالتين، وهي محدودية الانتشار، فإذا تبنت الخيار الأول فقدت مبرر وجودها وهويتها وتحولت إلى ذيل للنسق الحداثي المعلمن، وإن اختارت السبيل الثاني فستحكم على نفسها بالحصار في الزاوية الأضيق وتلقي الضربات حتى السقوط بالنقاط.

إن أزمة التيارات الإسلامية ستظل قائمة وستأخذ مسارات جديدة داخلها في التبلور تحت مسمى المراجعات، بعضها سيتجه إلى مزيد من التقليدية والراديكالية والانغلاق على الأسس التراثية ما سيزيد من عزلتها وابتعادها عن المجتمع، في حين سيذهب آخرون نحو النموذج النقدي المألوف في كل الأنساق الفكرية والتنظيمية. وقد يفتح الباب أمام تعدد المراجعات والمشاريع التي لا يجمعها ضابط منهجي محدد نحو مزيد من التشظي واتساع هوة الخلاف الإسلامي – الإسلامي. ولا توجد وصفة جاهزة للخروج من هذا المأزق، بل ينبغي على التيارات الإسلامية بناء خطوط سردية جديدة قائمة على بلورة مشروع أخلاقي وخطابي، يتجاوز استعادة الشريعة بصورتها وممارساتها ومؤسساتها وتفسيراتها التقليدية، مشروع يرتكز على بلورة تجربة إيمانية حية تقي التيار الإسلامي من آفة التنازع وتحقق له التكامل المطلوب، مدعوم بفكر حر منضبط للمناهج العقلية والعلمية المستجدة، يخرج بها من نطاق التحجر ويؤمن لها إمكانية التجدد.

 
مجموع المشاهدات: 1243 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة