الرئيسية | أقلام حرة | بين الديمقراطية والمبادرة والانتماء

بين الديمقراطية والمبادرة والانتماء

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
بين الديمقراطية والمبادرة والانتماء
 

 

 

تكاد تنعدم مظاهر المبادرة والإبداع عند الشعب العربي في أي ميدان من ميادين التقنية أو الفن أو الفكاهة أو أي مجال من مجالات العلوم الإنسانية أو الحقة، على خلاف ما هو عليه الحال في الدول الديمقراطية، التي تُغرق تجارب وإبداعات شبابها شبكات التواصل الاجتماعي..

والحديث هنا ليس على برامج أو مشروعات أو النشاطات الرسمية التي تنظمها الدولة أو توجهها أو تكون طرفا فيها، ولا حتى عن الأنشطة الطلابية التي تكون تحت إشراف أساتذة باحثين موجهين بوصلة البحث، أو في إطار مشروع التخرج، لا، بل هو عن الأنشطة الشعبية المحضة أو "أنشطة الشارع" التي يقدمها "الهواة" في الشارع العام أو الحدائق أو الغابات أو الخلاء،، دون تأطير أو تخطيط أو تهييء أو بنية، بغض النظر عن نجاح هذه التجارب أو فشلها، ولا عن جدوى هذه الإبداعات، ولا عن قيمتها العلمية.. المهم أن هناك تفكيرا وإعدادا وتجربة وإنجازا وتوثيقا ونشرا،، كل هذا بشكل تلقائي متعدد متكرر، ما يضاعف حظوظ حصول "مفيد"(ولو بالصدفة) من جهة، ويدل على حيوية الفرد وإشعاعه في ما عدا المعيش، من جهة أخرى..

إن الفقر المدقع المهيمن على المشاركات العربية في منتديات التقاسم الاجتماعية يبلغ ذروته في غياب الصفحات(وبالأحرى المواقع)-وما يمكن أن ترمز له من مؤسسات- أصلا، وحتى ما وجد منها فهو مرتبك متأرجح بين تشارك التفاهات، وإعادة نشر إبداعات الأجانب!!

الفاقة وانعدام الحيلةيظهر أيضا، وبجلاء أكثر، في الإنتاج التلفزي الوثائقي العربي، ذلك أن المشاهد يُضطر للاشتراك في قنوات أجنبية مؤدى عنها ليشاهد برامج وأشرطة وثائقية تباع بأثمنة مكلفة، أغلبها من صنف "تلفزيون الواقع" التي لا يخلو منها بلد، حيث أنها تصور وتتابع وتواكب الحوادث الطرقية،والكوارث الطبيعية،والأمراض المستعصية أو النادرة، والحالات والحوادث الغريبة المعروضة على المستعجلات، وتدخلات الأجهزة الضبطية المشرفة على السير في الطرقاتوتلك الأمنية المتعقبة للمجرمين(مع أن الحالات المتعلقة بالصحة والأمن لا يمكن بحال أن توثق عندنا، لأن الناس يعرفون ماذا يقدمون، ولو أطالوا التمحيص وأعياهم "التزويق"!!)... وتقديم كل ذلك كوثائقيات نفيسة..

إن المتتبع المقارِن ليشده أمام هذا العوز الموبق، وكأننا لا حوادث تحدث عندنا ولا جرائم ولا أمراض، ولا جبال نمتلك ولا وديان ولا أنهار!! إنها قمة السلبية والعجز..

أما بالنسبة للثراء  و"الانفجار" والتفتق-في هذا المجال المتحدث بشأنه- عند المعسكر الآخر، فإن أسبابه متعددة، قوامها التشجيع وإتاحة الفرصة، منها ما يرتبط بالتكوين في المؤسسات التعليمية وما ينتج عنه من تثبيت للثقة في النفس، وزرع لروح الحيوية والإيجابية والنشاط في الشخصية، واستنبات الفكر النقدي المبدع والمنهج العلمي والرغبة في الإنتاج والعزيمة على الإبداع والإصرار على الإشعاع،، ومنها ما يرتبط برفاهية الحياة المادية للأفراد والمجتمع وما يترتبعليها من توافر وسائل التعليم والتعلم والإنتاج والنشر على حد سواء، وبما يتيح كذلك من راحة نفسية واطمئنان وجداني وفائض في الوقت يتيح إمكانية التفكير في عمل غير مدر للدخل، بل يتطلب مصاريف إضافية وجهدا إضافيا وطاقة إضافية،، كلها متوفرة،ليتوج المشهد كله بالحرية المطلقة في "الإنتاج" و"التوزيع"..

والمتأمل في هذه الأسباب والمختزلة في نظام تعليمي مكوِّن، ومنظومة إعلامية بانية، ورفاهية ممكِّنة، وحرية مشجعة، يجدها مؤسسة، بل مضمونة بنظام سياسي ضامن كافل متكفل، يمارس الرقابة الذاتية على حكامه وأجهزته التنفيذية مقابل ترك الحبل على الغارب للشعوب، وتمكينهم من محاسبة مسؤوليهم ومسائلتهم، رغم ما وفروه لهم مما سبق ذكره!!

غير أن كل هذه الظروف والمعطيات هي معكوسة تماما بالنسبة لنا("دول" العالم المتخلف)، حيث أنه بقدر ما يد حكامنا طليقة في العبث والتبذير والتضييق والحجر، بقدر ما يدنا مغلولة في المبادرة والإبداع..

ذلك أن ومضات الإشراق والمشاركة العربية في البناء التراكمي للحضارة الإنسانية، والتي مرت في التاريخ أو باقية في الجغرافيا، نشأت في رحم كيانات سياسية مخالفة لهذا المسخ السائد. حيث أنه إذا كان مفهوم الديمقراطية بمعناه المتداول لا ينطبق على حال الدولة الإسلامية، فإن مسألة التشجيع وإتاحة الفرصة الواردين أعلاه، إضافة إلى تحقيق الرفاهية والعدل والعدالة بين المسلمين، أكثر ما يمكن استحضاره خاصة في عهد الخلافة العباسية حيث غزرت الإنتاجات الأدبية والعلمية، وتعددت الابتكارات التقنية.. ونفس التوصيف يسحب على غزة، مع إضافة عنصر الحاجة،لتفسير وجود الكثير من الإنتاجات والاختراعات في سجن كبير، مقابل جمود متمكن ممن "يتبحبحون" في نعيم الخبز المشروط، وحرية الجسد مقابل قيد الفكر..

إن الناظر في أحوال دول العالم ليتبدى له بيسر تناسبية مطردة بين سيادة الديمقراطية، وتحقيق تكافؤ الفرص بين أفراد الشعب، وتوزيع الرقابة وتوسيع شبكتها ومأسسة آلياتها،من جهة، وانتشارالاستقرار والرخاء والتقدم والريادة وهيبة الجانب، من جهة أخرى.. بل إن أثر الجانب الأول -حال سيادته وشيوعه في غالبية دول المعمور- يتعدى حدود ما ذكر على صعيد إشعاع الدولة الواحدة ورفاهية أبنائها إلى سيادة أمن وسلم واستقرار ورخاء دولي يغمر فيضه كل الكون..

فطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم تنزل بثقلها في كل مناحي الحياة الفردية والجماعية، وتنعكس على كل سلوكات الأفراد والجماعات، وتؤسس -بالأساس- حدود معنى الشعور بالانتماء عند "المواطن"، وتَمثُّل روح هذا الانتماء لديه..

ومظاهر الشعور بالانتماء وتجلياته كثيرة، منها "الشكلي"، ومنها ما يغوص في المضمون، وكلاهما مؤشر على الآخر ودليل عليه. ومما يتعلق منها بالشكل -مثلا- تعاطي جمهور وجمعيات التشجيع الرياضي مع فرقهم المحلية أو الوطنية.. فبينما تشجع جماهير العالم المتحضر الشاعرة بالعضوية والانتماء، تشجعفرقها حتى آخر نفس، وفي كل الظروف والأحوال،بما فيها أحلكها(حين تكون الفرقة فعلا في حاجة إلى التشجيع والدعم)، فإن جمهور العالم الثالث ينقلب على فريقه في أول تعثر، وذلك لانعدام ثبات الولاء،بداعيالشعور بعدم التمثيل،وضمور عنصر الانتماء..

ومثيل ذلك أيضا المحافظة أو تخريب الممتلكات العامة أو العمومية من حدائق وكراس ومراحيض وممتلكات المؤسسات التعليمية ومصابيح الإنارة العمومية ولوحات إشارات المرور وكراسي الحافلات... وكذا الخضوع للقوانين المنظمة بتقبل وتلقائية.. وهذا بسبب الإحساس بالغبن وتبطين الضغينة لكل ما هو عام، لأنه لم يشرَك المواطن في إيجاده أو تبلوره، أو لإحساسه("المواطن") باستغلاله(المرفق العام أو القانون) بطريقة من الطرق(حين الإنشاء -سرقة الميزانية، عدم التفويض...-، أو أثناء الاستعمال-استغلال العام في الخاص، الشطط...-)، أو لعدم الحاجة إليه، في مقابل تجاهل وإغفال ما المجتمع في حاجة فعلية ماسة إليه، أو لإنجازه في ظروف مكانية أو زمانية غير مقبولة.. لأنه لا يستقيم أن لا يخضع شخص لقانون سنه ممثلوه، وسُن لمصلحته، ويطبق على الجميع!!!..

 
مجموع المشاهدات: 1333 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة