الرئيسية | أقلام حرة | انهيار الإنسان أمام جبروت الإدمان !

انهيار الإنسان أمام جبروت الإدمان !

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
انهيار الإنسان أمام جبروت الإدمان !
 

 

     استوقفني ذات مساء برنامج اجتماعي أسبوعي بقناة تونسية، تقوم فكرته على تسوية وضعية إنسانية مستقاة من أرض الواقع، وقد تأتي في شكل عقد صلح بين شخصين أو أكثر، إثبات نسب طفل... يحاول منشط البرنامج ردم الهوة بين صاحب الدعوة والشخص المدعو للقاء، دون أن يكون هذا الأخير على علم بهوية صاحب الدعوة وموضوعها، بعيدا عن أي تشهير أو ابتزاز أو تصفية حسابات شخصية... 

     وقد دارت أحداث حلقة ذلك المساء، حول شاب تونسي عاطل، يبلغ من العمر ستة وعشرين سنة، أدمن على تناول المخدرات، هروبا من مرارة الواقع ووحشة الفراغ. وبما أن توسلات الأم المريضة واستعطافات الأخت الكبرى، لم تجديا نفعا في إعادته إلى جادة الصواب، وإشعاره بما يتسبب لهما فيه من معاناة نفسية ومادية، لاسيما بعد أن بدأت حالته الصحية والنفسية تتدهور، واختطف الموت أحد أعز أصدقائه إثر جرعة زائدة، فإن الأخت بادرت إلى طرق باب البرنامج، متوسمة الخير في مساعدة منشطه على استفزاز أخيها إيجابيا وإقناعه بضرورة زيارة طبيب أخصائي، للتخلص من حالة الإدمان. وبعد عناد شديد وجهد جهيد، رضخ الأخ للأمر مبديا موافقته، إذاك تكفل البرنامج بمصاريف الاستشفاء.

     ولا أعتقد أنه من الممكن أن يحظى مدمن في بلدي، بنفس فرصة ذلك الشاب التونسي، ما لم يكن قادرا على تحمل الكلفة المالية للعلاج، أمام قلة مراكز محاربة الإدمان وتكاثر أعداد المدمنين، أو التسلح بقوة الإرادة والاستعداد التام لتطهير ذاته مما عبث بها من سموم خطيرة. 

     والمخدرات آفة اجتماعية كونية، ظهرت منذ فجر التاريخ، وهي إما طبيعية: حشيش، أفيون وقنب هندي... تستهلك مباشرة أو بعد مزجها بمواد صناعية، تسهل عملية الاستنشاق أو الحقن أو المضغ أو التدخين وهو الأكثر انتشارا، أو تكون صناعية من أصل كيماوي، وكثيرا ما يتحول تناولها المستمر إلى حالة إدمان. والأفيون ساهم في علاج أمراض عدة، وتخدير المرضى قبل إجراء العمليات الجراحية، لكن استخدامه في غير أغراضه الطبية، أضر بالحياة العادية والمهنية والدراسية لأشخاص كثيرين وأسرهم. ورغم اضطرار جميع الدول إلى سن قوانين تمنع بموجبها استعماله خارج أهدافه الإنسانية، استمر ضعاف الشخصيات في البحث عن لذة زائفة عبر استهلاك المواد المخدرة: حشيش، قنب هندي، كوكايين، قرقوبي وخمور... للإبحار في عوالم من الوهم والخيال، بهدف نسيان همومهم وأوضاعهم المأزومة... وفي ظل تزايد أعداد ضحايا المخدرات، تطورت تجارتها بشكل رهيب، وأصبح أباطرتها يشكلون قوات ضغط في كافة بقاع العالم. 

     والمغرب من بين البلدان المصابة بلعنة المخدرات زراعة وترويجا واستهلاكا، وعرف سكانه مادة الحشيش منذ سنوات طوال، بل أضحى رائدا في الترويج له داخل الحدود وخارجها، ولا أدل على ذلك أكثر من التقارير الوطنية والدولية، وإحباط العديد من عمليات تهريب المخدرات وتفكيك شبكاته الدولية، وحجز الأطنان من طرف السلطات الأمنية... فهل يتجه البرلمان المغربي، في إطار ما تعرفه زراعة القنب الهندي من نقاش صاخب، نحو تقنينه واستغلاله لأهداف طبية وتنموية بعيدا عن آثاره السلبية؟

     ففي آخر تقرير صادر عن المرصد الوطني للمخدرات والإدمان خلال عام 2014، نجد أن متوسط عدد مستعملي المخدرات باستثناء التبغ، يتراوح ما بين 4 و5 بالمائة في صفوف البالغين من السكان المغاربة، وأن أزيد من 95% منهم، يتعاطون مادة القنب الهندي، وحوالي 70 ألف يفرطون في شرب الخمر، بينما هناك ما لا يقل عن 20 ألف يستهلكون مادة الهيروين، ومثلهم يستعملون الكوكايين. والأفظع، أن 20% من تلاميذ التعليم الثانوي سبق لهم تدخين سيجارة، بينما 10% تناولوا الكوكايين، وهي أرقام تثير الرعب، وتظهر أن تنامي استهلاك المواد المخدرة، ساهم في ارتفاع معدل الجريمة. 

     وإذا كان المتعاطي للمخدرات أو الخمور يستطيع تناولها وقتما شاء، دون فترات محددة أو زيادة في الكمية، والإقلاع عنها متى أراد. فللمدمن اعتياد زمني محدد، يطالب دوما بالاستزادة ولا يمكنه الاستغناء عنها بغير علاج. حيث يفقده الإدمان الحفاظ على تماسك شخصيته وصيانة كرامته، وقد يلجأ إلى بيع أثاث بيته والسرقة والرضوخ للابتزاز، مقابل ضمان حصته اليومية. فالمدمن يبدأ مستهلكا عاديا، أو يرغب فقط في خوض التجربة وتحدي أصحابه، غير واع بأن القوة الحقيقية لشخص ما لا تقاس بقوته البدنية أو ما يتوفر عليه من مال، وإنما هي تلك التي يتحدد بموجبها مدى قدرته على الصمود وعدم الاستسلام للمغريات، مهما كانت حالته النفسية ومشاكله الاجتماعية والاقتصادية... 

     والإدمان ظاهرة مرضية وذات جذور عميقة، لا ترتبط فقط بالمخدرات والخمور والتدخين، بل تمتد إلى القمار والإنترنت... وغالبا ما يكون الشخص قبل تمرده على واقعه بتعاطيه مواد مخدرة، ضعيف الشخصية، يشعر بالاضطهاد الأسري أو الاجتماعي، عاجزا عن الإدلاء برأيه، متقلب المزاج، سريع الانفعال ويبحث عن مصادر القوة خارج ذاته لدى رفقاء الشر، ما يجعله يسارع إلى إخفاء ضعفه بارتداء قناع المخدرات ومضاعفة جرعاته. يدور في حلقة مفرغة، ويغرق في دوامة متاعب صحية واجتماعية ومادية، فيفقد توازنه النفسي وقدرته على التركيز، فضلا عن الشعور بالقلق والاكتئاب، ضعف الذاكرة والملكات العقلية، عدم الالتزام بأوقات العمل والتحملات العائلية أو الدراسية، تدني مستوى التحصيل والإنتاج. وفي حالات متقدمة يصل المدمن إلى حد الهياج والعنف والرغبة في الانتحار أو يصاب باضطرابات عقلية وسلوكية، تفضي إلى ارتكاب جرائم وجنايات خارج إرادته... 

     من هنا، تأتي مشروعية التساؤل حول دواعي استشراء ظاهرة الإدمان على تناول المخدرات، خاصة بين شباب في عمر الزهور، كان من الأجدى له التشبث بالأمل والانشغال بصناعة المستقبل،  بدل الانسياق وراء "سحر" الحشيش أو الحبوب المهلوسة. لقد بات من غير المقبول، الاستمرار في لزوم الصمت أمام غزو المخدرات أحياءنا ومؤسساتنا التعليمية، وتحول أبنائنا وبناتنا إلى رهائن في أيدي عصابات إجرامية إما عن طريق استهلاك المخدرات أو ترويجها أو للاستغلال الجنسي، وقد يتعرض أبرياء منهم للاعتقال عوض الوسطاء الحقيقيين. ويعود تعاطي المخدرات، إلى عوامل شتى منها التقليد الأعمى، أمراض نفسية، التفكك الأسري وضعف الرقابة، البطالة، مشاكل عاطفية، السكن غير اللائق، انعدام الوعي والتواصل الاجتماعي، غياب الأندية الثقافية والترفيهية والرياضية، والأهم من ذلك، فشل المنظومة التربوية في بناء شخصية المتعلم...

     وتعد المخدرات من بين معوقات التنمية، لما لها من انعكاس على الإنتاج وانتشار الفساد، فقد أنتجت أزمات أسرية واجتماعية، مما يستدعي إشراك المدرسة والمجتمع المدني ووسائل الإعلام، في وضع برامج تثقيفية وتوعوية، للتحسيس بمخاطر المخدرات إلى جانب تعزيز جهود الجهات الأمنية، وتأطير الأشخاص المدمنين وأسرهم للمزيد من اليقظة والوقاية وتحصين الذات، فالأخطر من الإدمان هو إهمال المدمن والتعامل السيء مع حالته المرضية، بالاعتماد الكلي على مقاربات التجريم والمنع... 

 
مجموع المشاهدات: 1832 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة