الرئيسية | أقلام حرة | المشروع الفكري: من جدلية الصراع إلى إنتاج البدائل

المشروع الفكري: من جدلية الصراع إلى إنتاج البدائل

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
المشروع الفكري: من جدلية الصراع إلى إنتاج البدائل
 

 

لعل المحك الحقيقي لتقدم المجتمعات، وتطور منظومتها الفكرية، مرده أساسا إلى طبيعة الأنماط الفكرية المتداولة، ومدى قدرتها على إنتاج البرامج والمشاريع، وتنوع الرؤى والتوجهات العامة، واستعدادها، المتجدد، التأسيس لعصر جودة المعرفة، وفق مقومات التغيير التي تنسجم وطبيعة تطور النمو الذهني للكائن البشري، الذي يتحرى الجديد وفق متطلبات البيئة باعتبارها عاملا متحكما في إنتاج الأفكار.

 

لقد بات التنوع الهائل للقضايا الأساسية، ميدانا خصبا للاجتهاد، ومبعثا على التفكير في الحلول، وسببا حقيقيا لفتح نقاشات واسعة بين مختلف الأطياف المجتمعية، لتصبح قادرة على إفراز تنوع فكري، كفيل بخلق جدال معرفي، تمهيدا للتأسيس لفترة الصراع المفروض والإيجابي حول الأمور المتحكمة في ازدهار المجتمعات ورقيها، من قبيل الاجتهادات ذات الطبيعة الثقافية الفكرية، كخطوة ضرورية لصحيح النقاشات الدائرة حاليا، والتي لازالت تدور في فلك عقم الإنتاجية، وتفتقد للجدية المطلوبة.

 

تتحدد عملية إنتاج الأفكار انطلاقا من القدرة على استثمار المهارات الذهنية، انسجاما مع روح الواقع، فهي تشترط، الضرورة الملحة لاكتساب الإطار الصحيح للتفكير، وفق توحيد ميكانزيمات العقل البشري، وضبط المفاهيم، وتوحيد المنطلقات، وتنمية آليات إعمال العقل.

 

تأكيدا لما سلف، فإن المنتوج الفكري يصنع داخل الذات البشرية، فيتحول من طابعه الذاتي الشخصي إلى الطابع الاجتماعي، بفعل تفاعله واحتكاكه بالبيئة_ الموضوع، ليتمكن من اكتساب شكل معرفي قد يتحول إلى نموذج قابل للتنزيل، وبالتالي المساهمة في صناعة الوعاء الفكري اللازم، فالنموذج الفكري في حاجة إلى تفاعل، نقاش، ثم تبادل المعارف والآراء، حتى لا يعيش حبيس الذات، فبفعل النقاشات التي تترجم الأفكار إلى برامج قابلة للتنفيذ، تتحول من رموز داخلية وشفرات ذهنية إلى مقاربات تروم التأسيس لمرحلة الرفع من الإنتاجية، من خلال التدخل في معادلة الواقع لأجل محاولة تغييره نحو الأفضل.

 

إن انطلاق عملية التفكير من الأنا في اتجاه الأخر، تجعلنا نستحضر الكوجيطو الديكارتي، الذي يجعل الوجود مرهون بالتفكير، حيث لابد من التمييز بين وجود بالفعل، ووجود بالقوة، فالتفكير موجود بالقوة في عقل الإنسان، وعملية إخراجه من سجن الذات تجعله موجودا بالفعل، فما يتوجب علينا فعله، هو تنزيل المهارات الذهنية من الذات نحو الواقع، باعتماد الحوار والنقاش المجتمعي الكفيل بالمساهمة في التغيير نحو الأجود، قصد رسم معالم حقيقية للمشروع الفكري.

 

إن ما تحتاجه المجتمعات، في الوقت الراهن، هو بلورة حركة فكرية قادرة على تحقيق الكينونة، ليصبح الحوار والنقاش ضامنان لانتشار المعرفة الجيدة وتحقيق فاعليتها، فالفكر يعد منطلقا لإنتاج المبادئ الأساس، توحيد التوجهات والرؤى، ثم تسطير البرامج، خلق الاتفاق بصدد القضايا الحاسمة، ثم تحقيق الأهداف والغايات الكبرى، فعملية إخراج التفكير من الأنا إلى الأخر، تعتبر ركيزة أساسية لتصريف المعرفة إلى مجالها العملي، ويبقى الاختلاف قائما في إطار نسبية المعرفة.

 

إن انعدام الصراع المعرفي الجدي والنوعي، ذاك الذي يمتلك طبيعة تفاعلية قادرة على أداء الوظائف داخل المجتمعات، والساهر على خلق منظومة الأفكار، أفكار بإمكانها التأثير في الواقع، سببه الرئيس غياب النقاش حول القضايا التي باتت تشكل أزمات تتطلب تدخلا آنيا ومستعجلا، فصناعة مناخ فكري إيجابي يستدعي تفاعل الأفراد، على اختلاف المواقع والأدوار، بل بالكاد، فقد أصبحت هذه المجتمعات عاجزة عن إنتاج نخب قادرة على مواكبة الواقع، فبالأحرى التأثير فيه، إذ باتت مدعوة إلى تغيير أنماط تفكيرها في اتجاه الرفع من المردودية والإنتاجية، والسبب انعزال أفرادها وعجزهم عن صناعة مشاريع واقعية، بل قد يؤدي توالي تبني المعارف السلبية إلى السقوط في الدوغماتية، ومن تمة إلى تطاحن المصالح، مما يساهم في انتشار فوضى التفكير، فيصبح العقل البشري عاجزا عن أداء وظائفه، فالطريق نحو التقدم، يعزى أساسا إلى مدى تواجد صراع الأفكار، صراع البرامج والبدائل، ولن يكون مرده مطلاقا إلى سذاجة في التفكير، واستهلاك المعارف الجاهزة، حبيسة النمطية .

مجموع المشاهدات: 1088 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة