الرئيسية | أقلام حرة | العالم قرية صغيرة..غموض كبير

العالم قرية صغيرة..غموض كبير

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
العالم قرية صغيرة..غموض كبير
 

 

أحدثت النهضة الرقمية والتكنولوجية التي يشهدها العالم اليوم ثورة في مجال الاتصالات٬ حيث صار من الممكن جدا لأي شخص في أي مكان من العالم أن يتواصل مع شخص آخر يوجد على أبعد مسافة منه في ظرف ثواني معدودة وبكل سهولة٬ كان ذلك يُعد قديما من درب المستحيلات لا يصادفه المرء سوى في حكايات ألف ليلة وليلة مثلا، أو عندما يحلق عقله بعيدا في نسج الخيال اللامحدود.

أما وإن أصبح اليوم حقيقة قائمة بذاتها فهذا من شأنه أن يطرح العديد من الفرضيات حول تصور الإنسان المستقبلي وماهية العالم في قادم السنوات. في ظل التغيرات التواصلية التي تمس جوهر الحياة الاجتماعية هناك من ذهب إلى وصف عالمنا هذا بالقرية الصغيرة، وهو وصف إلى حد ما معقول٬ فداخل القرية الواحدة يسهل التواصل بين قاطنيها ويستطيع الخبر أن ينتقل بينهم بسرعة ويسر، وهو بالضبط ما تسمح به اليوم وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات التعارف مع توسيع النطاق الجغرافي ليشمل العالم كله.

فلا يكاد الحدث يقع حتى ينتشر نبؤه في كل أرجاء المعمورة انتشار النار في الهشيم٬ وسرعان ما يبدأ زر الفأرة بمجرد نقرة بسيطة مشاركته بين المعارف والأصدقاء حتى يصبح حديث كل لسان ونقاش كل مجلس، في صياغة لما يمكن نعته بصحافة افتراضية حرة يزاولها العامة دون قيود أو شروط سواء تلك التي تفرضها أخلاقيات المهنة المتعارف عليها أو تلزمها قوانين النشر.

غير أن الخطير في الأمر هو ما قد يشوب هذه العملية في غالب الأحيان من تزوير للحقائق وتزييف مقصود أو غير مقصود لمجريات الأحداث، فما إن يحل الخبر ضيفا على جهة من الجهات حتى تَنْسُبَ إليه سيناريوهات كاذبة ومفتعلة، وتَقُص منه حقائق ثابتة وموثقة قبل أن ترسله بدورها إلى جهة أخرى تنتظر القيام بنفس الشيء، وهكذا يخضع الخبر الافتتاحي لعملية جراحية تُستأصل فيها كل مفاصله الرئيسية وأعمدته الأساسية ويُفرغ من مضمونه الأصلي فيتحول في النهاية إلى ما يمكن تشبيهه 'بحقيقة مكذوبة'٬ خصوصا وإن كانت هذه الزيادات السينمائية لا تخلو من التشويق والإثارة و وهو بالضبط ما يحبذه الناس عادة، مما ينتج عنه حالة من الغموض والارتباك يضيع في غيباتهما المتتبع إلى حد تلتبس عليه الوقائع فلا يدري ما يصدق منها وما يرمي وراء ظهره، كما يصاب العديد من الناس بحالة من الاستياء والملل تدفعهم إلى أن يواجهوا هذه الدائرة الإعلامية المربكة بكثير من التجاهل وقليل من الاهتمام، وسرعان ما يفضلون رؤية شارة النهاية لفيلم يعتبرونه سخيفا لا طائل من ورائه. 

هناك العديد من الأحداث التي شكلت قنبلة إعلامية ضخمة ومادة استهلاكية دسمة تناقلتها جل وسائل الإعلام الدولية بمجرد ظهورها، وانتهت مع ذلك بألغاز ما تزال شفراتها غامضة إلى اليوم.

إن ما يميز نوعية هذه الأخبار رغم تداولها على نطاق واسع هو قصر مدة حياتها فلا تكاد تتغلغل بين شرايين المجتمعات حتى يدفنها النسيان في الذاكرة الميتة إلى الأبد، ويعمها الفتور، وهذا من شأنه أن يخدم جهات ومصالح وجدت في ذلك متنفسا عميقا وخروجا آمنا من الباب الضيق.

على العكس من ذلك نجد أن كثيرا من الأحداث التاريخية ورغم مرور زمن طويل عليها تظل حاضرة بيننا بكل وقائعها وتفاصيلها الدقيقة، مدونةً في مصادر تاريخية وان كانت مختلفة التوجه والميول فقد استطاع أغلبها أن يحافظ على جوهر المضمون وعلى السياق الصحيح للوقائع كما حدثت بالضبط، فلبست بذلك رداء الثقة والمصداقية، واستطاعت أن تتبوأ سدة المرجعية التاريخية وتصل إلى ما يشبه الارتياح أو الإجماع على صحتها، ولنا في تاريخنا الإسلامي أمثلة لا حصر لها، هذا ما جعلنا نثق في التاريخ أكثر مما نثق في الواقع المصور أمام أعيننا، فهل فقد الواقع مصداقيته؟ والخبر قيمته؟ وما هي الآليات التي سيُحفظ بها تاريخنا للأجيال القادمة؟ 

يبدو أننا وسط غابة متشابكة الأفكار والأحداث تحجب عنا ضوء الشمس فلا نرى الحقيقة، وغالبا ما يخلد الباحثون والمدققون بعد مجهود مضني للراحة تحت ظلالها معلنين الانسحاب ومحكمين بذلك لضمائرهم، بينما يفضل البعض الآخر الانغماس عمدا في فوضى المعلومة الخلاقة لتحقيق مآربهم وأهدافهم غير النبيلة٬ ويبقى المتتبع البسيط بين مطرقة الركض وراء كل ما هو جديد، وسندان فقدان الثقة تجاهه، لاعبا دور الزبون المثالي لسلعة رخيصة يدفع ثمنها من وقته وتركيزه دون أن يدري وربما تساهم أيضا في تغيير منحى أفكاره وتوجهاته، ومن هنا تنبثق 'سلطة التحكم' كقوة فاعلة خصوصا وإن وجدت أمامها فريسة ضعيفة الشخصية يسهل الانقضاض عليها.

أمام كل فرد منا تاريخ حديث يصنع أمام عينيه من الصعب توثيق جميع مجالاته،  حيث يميل الإنسان أكثر لسرد كل ما هو جميل تماشيا مع طبيعته العاطفية، فحتى مصطلح ما بعد الحداثة الذي ظهر في عام 1949 اقترن أكثر بوصف حركات الفن وليس فترات من التاريخ الحديث، كما يتحاشى الإنسان في نفس الوقت الخوض في غمار المجالات السياسية والاقتصادية بالغة الحساسية، ليس خوفا أو هروبا منها ولكن للمتناقضات الكثيرة التي تصاحب عملية تدوين مثل هذه الأحداث في 'سجلات التاريخ'، والتي أفرزتها فوضوية وسائل التواصل نفسها، بالإضافة إلى وجود جهات إعلامية وازنة تحاول قدر الإمكان تزوير أو محو كل حقيقة تاريخية لا ترغب في بقاءها، مستغلة وسائط الاتصال السمعي البصري وتأثيرها المباشر على فئات عريضة من المجتمع، ومستعدة لتقديم ثروات ضخمة في سبيل تحقيق مبتغاها. 

مع التراكم والزيادة المضطردة يوما بعد ٱخر لمنسوب المعلومات على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي المختلفة، أصبح لزاما تحري النظر في مدى مصداقيتها وطريقة الحصول عليها، رغم صعوبة المهمة تبقى هناك مجموعة من المعايير لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار وهي :

*الإجماع على سياق واحد للأحداث

*ذكر المصادر التي استخدمت في تقل المعلومة تكون معروفة وموثوق بها

*المُصدّر للمعلومة يجب أن يتصف باحترامه للرأي والرأي الآخر

*الخبرة والمهنية وتقصي دقة المعلومة يجب أن تكون من أولويات الساهرين على نقلها

*الحياد التام وعدم تغذية أفكار أو توجهات معينة

*التزام الموضوعية وعدم الترويج لشائعات مختلقة، فالمتلقي للمعلومة من الممكن أن يصبح ناشرها

*وضع الضوابط والتشريعات التي تحفظ المعلومات المتداولة من التعرض للتزييف المتعمد.

فلا بد لنا إذن والحالة هذه من إعمال العقل وتوخي الحذر في تلقينا لكل ما هو جديد إعلاميا وافتراضيا، سيما مع تسارع وتعاقب الأحداث الفاعلة في عالمنا اليوم، كما أن لتشجيع البحث المجرد القائم على أسس علمية سليمة دور كبير في تقصي دقة المعلومة وصحتها، وعدم الانسياق وراء أي جهة من الجهات رغم شهرتها وانتشارها والتي تدعي سيطرتها على منابع المعلومة، والتفكير ألف مرة قبل منحها الثقة.

 
مجموع المشاهدات: 2357 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة