فن التكرار بامتياز
لطالما نُعتت السياسة بالعديد من الكنايات والتوصيفات، فهي كغيرها من المصطلحات اللغوية لها تعريفها العام لكن حين نخوض في تدقيق مدلولها نجدها بمعاني مختلفة ومتشعبة.
اختلفت المدارس الفلسفية في تعريف السياسة، فقد عرفها الشيوعيون بدراسة العلاقات بين الطبقات، وعرفها الواقعيون بأنها فن الممكن، كما نعتها أرسطو بالسعادة الجماعية وأن وظيفة الدولة هي أن تقيم مجتمعاً يحقق أعظم سعادة لأكبر عدد ممكن من الأفراد. وبشكل عام فإن السياسة هي كل ما يتعلق برعاية شؤون الدولة سواء الداخلية منها أو الخارجية.
وتُعرَّف السياسة على أنها فن التعامل مع العدو، إذ يمكن اعتبار هذا التأويل الأكثر حمولة للمعنى والأقرب إلى تفسير العلاقات الخاصة التي تربط الدول فيما بينها، ويقال أن السياسة فن الممكن أو الواقع إذا كانت فعلا ما تصبو إليه وتسيس له يدخل في خانة الممكنات، سواء من جهة المواطنين الذين لا تتعدى مطالبهم أساسيات الحياة العادية، أو من جهة السياسيين أصحاب النفوذ الذين لا يرفعون سقف أهدافهم وتطلعاتهم إلا بالقدر الذي يلبي حاجيات المطالبين دون مزايدات أو وعود سريالية غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع، وهذه السياسة في مجملها تضمن التعايش والاستمرار.
السياسة فن المستحيل كما يقال، وهذا النوع غالبا ما ينتهي بالفشل وإثارة الفوضى كونها تتبنى مشروعا مستحيلا بالنظر للمعايير الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الحاضنة لهذه السياسة، وسرعان ما تصطدم مغامرتها بحجر الواقع، فهي غالبا لا تقوم على استراتيجيات واضحة ولا تتعامل مع الحاضر برؤية جادة، ولا تعطي اعتبارا للظروف والقوانين الجاري بها العمل ولا ما ينتظرها من تحديات في المستقبل وهل هي قادرة بما تملكه من مُقدَّرات وإمكانيات أن تتجاوزها.
والسياسة لعبة المصالح لا تؤمن بالمبادئ والمُثُل، وقد وصفها البعض بلعبة المصالح القذرة والمتناقضات الغريبة إذ يمكن لأي طرف في اللعبة أي يكون صديقا لك صباحا ثم يُصبح عدوا شرسا في المساء إذا اقترن اختياره بمصلحته العليا، وهي السياسة السائدة في العالم اليوم تتحكم فيها التوازنات الدولية وصراعات الدول الكبرى.
السياسة أيضا فن التكرار بامتياز، خصوصا حينما يتعلق الأمر بمحطة ديمقراطية وازنة كالانتخابات، فهي لا تبرح أن تعيد نفس الشعارات ونفس الوعود ولا تغير من برامجها النمطية إلا العناوين بل ويكون أغلبها فاقدا للمفردات الرنانة والمقاصد السامية التي من شأنها أن تؤثر أكثر في المتلقي وتجلب أكبر عدد من المؤيدين.
محاربة البطالة، محاربة الرشوة، إصلاح التعليم، تأهيل الصحة، تطوير الاقتصاد، تشجيع المقاولات، الأسطوانة المتكررة المشروخة التي نسمعها في كل حملة انتخابية حتى حفظناها عن ظهر قلب، نريد وصفة سحرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى تخرجنا من حالة الضعف الاقتصادي والتعليمي الذي نعيشه، نريد مخططات مدروسة بدقة وعناية وليست برامج فقيرة وليدة الليلة الانتخابية، نريد أفكار جديدة ومسؤولة تأتي بحلول حقيقية وعاجلة لمعضلاتنا الاقتصادية العربية، وليس فقط تناوب أدوار على الحقائب الوزارية، نريد تجاوز المقاربات الروتينية الميتة العاجزة على إنقاذ الوضعيات الراهنة والبدء بإصلاحات جوهرية عميقة، نريد الحس العملي المتفاني الذي يجعل مصلحة البلاد والعباد سامية على المصلحة الشخصية والحزبية، نريد استراتيجيات صادقة وجريئة مُحددة في الزمان والمكان والنتيجة حتى ولو اضطُررنا للتنازل عن بعض مكتسباتنا وتقديم التضحيات في سبيل إنجاحها، نريد صراحة معجزات تسطرها سواعد نقية وفئات شبابية متحمسة وطموحة تؤمن بما نزخر به من ثروات غنية، نريد طاولة مستديرة تجمع كل ممثلي المجتمع المدني وكل الطبقات الاجتماعية لنناقش عن قرب مختلف المشاكل والعقبات بحياد وعقلانية ولنسطر على المدى المتوسط أو البعيد آلية واضحة يلتزم بها كل الأطراف السياسيين الفاعلين بنية صادقة لخدمة مشروع وطني متكامل ومحسوم النتائج.
هذا ما نريده على أرض الواقع ولا نريد سياسة التكرار.
عدد التعليقات (1 تعليق)
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟