الرئيسية | أقلام حرة | مجانين يتيمة المدائن

مجانين يتيمة المدائن

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
مجانين يتيمة المدائن
 

 

يحدثنا التاريخ عن مجانين تركوا بصماتهم الواضحة في مختلف المجالات الثقافية والاجتماعية والعاطفية والاقتصادية والسياسية بسلوكاتهم وتصرفاتهم التي قطعوا من خلالها مع كل ماهو واقعي منطقي, ورسموا عن طريقها مسارات أخرى اتخذ بعضها طابعا كوميديا, واتسم بعضها الآخر بالتراجيديا المبكية, ودون أن نستغرق في عرض كرونولوجيا الجنون والمجانين, لأن هذا يدخل في صميم البحث الأكاديمي, سوف نسلط بعض الضوء على مجانين يتيمة المدائن من القائمين على تدبير شؤونها, من خلال مفارقات قطعت صلة الرحم بين تدبيرهم وبين العقلانية والمنطق, جنون يستلهمون من خلاله شخصية نيرون محرق روما الذي جلس أياما في برجه الطويل يتملى بمنظر النيران ولهيبها المتصاعد وهي تأتي على أغلب أحياء المدينة بإنسانها وأشجارها ومنازلها وحيواناتها.

هؤلاء تقمصوا شخصية هذا المجنون فأحرقوا مدينة يتيمة بتدبيرهم العبثي وتسييرهم المجنون, وأحرقوا معها قلوبا مَنَّتِ النفس بغد أفضل, وظلت تتملى وتتغنى بالحياة البيضاء المشرقة القادمة عبر وعود تبخرت بدورها بجنون منقطع النظير, لتزف إليهم الموت والفناء وتشعل في عقولهم وقلوبهم مشاعر الأسى والإحباط والتشاؤم, بمشاريع معاقة وأخرى ولدت ميتة أو تم إجهاضها أو حيل بينها وبين الظهور فوق سطح اليتيمة استجابة لنداءات الترحيل الموجهة من مجانين من نوع آخر, يعانون من جنون العظمة, ويريدون أن يكون لهم ولمدنهم المجد والخلود، وقفا عليهم وحدهم دون سواهم.

لو قدر لابن القيم أن يعيش في زمننا هذا لما تردد في إلحاق مجانين اليتيمة بكتابه "أخبار الحمقى والمغفلين", ولخصص لهم حيزا كبيرا من الكتاب, وهو يشاهدهم يقتلعون إسمنت الشوارع والأزقة و إسفلتها في عز تساقط الأمطار, ويحولونها إلى برك طمي وأخاديد ومغارات, تخاطب الساكنة أن ادخلوا مساكنكم وأوصدوا أبوابكم حتى لا يحطمنكم جنون مجانين يتيمة المدائن المركب, الذي اتخذ أشكالا تعاند الحصر وفي هذه النقطة لوحدها بالذات، والتي من تمظهراتها:

جنون التأشير على مشروع التبليط كما اتفق, ودون التقيد بشروطه ومقاييسه المطلوبة.

جنون إغفال قنوات الصرف الصحي المتهالكة التي لا تبخل على الأرض بما ما يرمى فيها, ولا توصل للمصب, لفرط كرمها, ولو قطرة واحدة أحيانا.

جنون إطلاق وصلات البوندكوموند والصفقات لجلب قواديس إسمنتية, قالوا الآن بعد بضع سنين إنها غير صالحة فهشموها عن بكرة أبيها, ولم يستثنوا منها أحدا.

جنون الحنين إلى عهد التراب بتدمير ما بلطوه بدعوى إصلاح قنوات الصرف الصحي, وتحويل الأزقة إلى ممرات من تراب, سيستحيل وحلا في الشتاء وغبارا في ما دون ذلك.

جنون تدمير زقاق والانتقال إلى زقاق آخر قبل إقبار معالم الجريمة التي ارتكبتها أيديهم, وكأنهم يستمدون شيئا من روح نيرون السادية التي تريد التملي بمنظرالخراب على نطاق واسع, ورؤية الناس وهم يَنِطُُّون كالضفادع في انتقالهم من هذه الضفة إلى تلك.

ما أكثر جنون هؤلاء, وما أكثر إبداعاتهم الجنونية الخرقاء التي نستطيع أن نعد منها, دون أن نملك القدرة على عدها لغزارتها وكثرة أصحابها من ذوي الشهادات العليا في فن تدبير العشواء والتسيب والأهواء، ومنطق اللغو التدبيري الذي لايترك صغيرة أو كبيرة في الخرق والجنون إلا أحصاها وأتى عليها.

يقول المثل الإنجليزي الشهير:"إذا ألقى المجنون حجارة في بئر عجز ألف عاقل عن استخراجها", هذا عن مجنون واحد وما يمكن أن يفعله بألف عاقل, أما عن واقع يتيمة المدائن, فهو يحفل بمجانين ملؤوا البئر عن آخرها بالحجارة, ولم يتركوا أملا, لعاقل إن وجد, بكنسها.., ربما وقد عايشنا الجنون وتعايشنا معه أصابنا طائف منه, ولذلك فمن غير المستبعد أن نطارد بالحجارة عاقلا قد تجود به الأقدار, إذا أراد أن يمس بسوء بنيان جنوننا, وأن يبني على أنقاضه صرح تدبير عقلاني يقطع مع الجنون العبثي التخبطي، إنه عشق الجنون الذي سيدخلنا حلبة التاريخ من بابها الواسع، ولا أظن أن أحدا سينافسنا سواء على مستوى اللاعبين أو على مستوى الجمهور.

مجموع المشاهدات: 922 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة