الرئيسية | أقلام حرة | تمرينات السياسة ومحنة العقل الفقهي

تمرينات السياسة ومحنة العقل الفقهي

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
تمرينات السياسة ومحنة العقل الفقهي
 

 

من أجل فهم عميق لحقيقة الرؤية السياسية/الفقهية التي ألقى بها الفقيه المقاصدي بشأن الحالة المصرية،وبالقلب منها مأساة "الإخوان المسلمون" كفصيل حركي دعوي/سياسي كان عرضة للسقوط في دوامة تشابكات عنيفة ومؤلمة مع الواقع في تجلياته المحلية والإقليمية والدولية المستقرة على قدر عولمي/إمبريالي مستحكم،عرض شرف الخرائط الحضارية لمقصلة الإستباحة،ومن أجل كشف الإلتباسات التي تحيط بهذه الخرجة الإعلامية وبكل أخواتها وشبيهاتهاالتي صارت تترى تباعا كسيل لايتوقف من شتى مجاميع الطيف الحركي وكأننا بإزاء سمفونية تبرؤ جماعية يقدمونها بين يدي العائدين من قبورهم التي أركموا فيها إبان الحدث الزلزالي لحراكات "الربيع العربي"،بعدما تعرضت الموجة التغييرية المتفجرة مع اشتعال الجسد العربي المحتقن بالذلة والمهانة والإحتقار حتى استحال برميل بارود ذاتي التفجر،لعملية تكسير أليمة ومتوافق عليها،يكون لزاما علينا النبش عميقا في تجاويف المتون التراثية والأسانيد الأيديولوجية التي يتكئ عليها العقل الفقهي لأجل إنتاج أدبياته المؤطرة وكذلك لتصريفاته المرحلية التكتيكية،حتى نستبين السياق العام الذي تندرج في إطاره هاته الرؤية،وتكون القراءة على بينة،نستطيع من خلالها فك مغاليق القول المتسربل بدثار الغموض والسابح في أبحر الدلالات المفتوحة على كل الإحتمالات.

ليست خرجة "الدكتور الريسوني" شذوذا فكريا،أو شرودا سياسيا،أو تنظيرا فقهيا منفلتا،إذأن مثل هاته الرؤية السياسية المفجعة من "شيخ المقاصد" المبرز،وفق المحدد الأول الذي يمنحنا إمكانية تأطير القضية في علاقتها بالماضي التراثي بما هو معين الإستلهام

والإستمداد للطروحات الفقهية والمقولات السياسية،نقول،أن هاته الرؤية ومهما حاول منتجها إلباسها دثار الحكمة والرشد،إلا أنها تظل النتاج الطبيعي المر لعقل فقهي نكوصي بامتياز،لا تزال الكثير من المجاميع الإسلامية تمتح منه رؤاها.هذا التراث من الفقه السياسي المتكلس الذي لم يزل يكبل فواعل وممكنات الفرد والجماعة داخل المجال الإسلامي،مانعا إياها عن تشييد تجربة سياسية راشدة،هو المدونة ذات الملمح التبريري والتكيفي التي لم يتوصل بعد هؤلاء إلى مرحلة نضج عقلي تهبهم القدرة على الفكاك منها،لأنهم اعتاشوا وجوديا على الإستمداد من معينها،وظلت عقولهم خاضعة لثقل طروحاتها.فالعقيدة السياسية التي يعمل على هديها أصحاب منهج التوافق والإصلاح،هي عقيدة مهادنة ومداهنة،تعتد بسلطة الواقع مهما كانت درجة رداءته وسقمه دونما جدال أو مراجعة،وتقسم عالم السياسة والحكم وفق مراتبية حادة وصلبة،لا ترى فيها للموالي حقا سوى أن يكونوا "رعية" مطيعة،لا ينازعون الأمر أهله،والذي هو في المحصلة "سلطة الحكم" وصولجان وعرش وحريم وخزينة ورعية من العبيد.

إن مفهوم "الطاعة" الذي ينضبط له العقل الفقهي في تقريراته،يعد النواة الصلبة التي ينتظم في إطارها كل الوجود المشيد في مخيال الفقيه،فهاته العلاقة بكل ثقلها العقدي بما هي رابطة تنتسج بين المسلم وربه،يكون فيها إذا ما أحب الإندراج في جماعة المؤمنين،ملزما بالتسليم المطلق لإرادة الله وحكمه،دونما تململ أو إعادة نظر،قد تم الإنزياح بها عن جذرها العقدي/التعبدي إلى أن تصير إطارا حاكما ينظم علاقة الحاكم بجماعة "الرعية" التي تعد موضوعا للحكم ولتجلي إرادة السلطان ليس أكثر.الأمر الذي جعل أرباب هذا الفقه يساوون في مظلمة فقهية بينة لا تخطؤها العين،بين كل فعل احتجاجي ورافض يمارسه المواطن في وجه الحاكم كنوع من ممارسة الإرادة الحرة داخل فضاء

سياسي يجب أن تحكمه علاقات رضائية وتعاقدات سياسية/إجتماعية،وبين التمرد على الله وكل إعلان جهري لعصيانه،ما جعل كل مقدم على ذلك موصوما بكل أنواع القدح في دينه وعقله وشرفه.إن فقها مثل هذا،وبهاته الملامح والقسمات الحاملة للتعبيرات الموغلة في الإرتكاس والإنبطاح،يستحيل عليه أن ينتج لنا غير هاته الرؤى السياسية الإرتهانية،الخاضعة لسلطان الواقع،والمفتية بوجوب القبول والرضى به،بل بشرعنة ذلك الخضوع وكأنه مراد من مرادات الله تعالى.

إنه فقه إذعاني يرتهن لسلطان الواقع وسطوته،هذا السلطان والسطوة هما ما يضغطان على العقل الفقهي لأجل إيجاد مخارج توافقية مريحة تقبل بالواقع على الرغم من قباحته،تعفي صاحبه من خطورة الوقوف في وجه ذلك الواقع ومنابذة أهله والدعوة والسعي لاقتلاعهما،لذلك نراه يعمد إلى لي أعناق النصوص وإرغامها على النطق بما لا تحمله في بطنها في الأصل،وذلك لأجل أن يكون في حل من الإعنات،وفي سلامة من المخاطر.فقه يرى في رفض المسلم أن يكون عرضة للجلد وسلب المال من طرف الحاكم المبجل،تمردا وعدم إيفاء بشروط الطاعة وثلما عميقا في العقيدة،يلزم فاعله بوجوب تجديد إيمانه حتى يليق به الإتصاف ب"العبودية" الحقة.لقد عمل هذا الفقه على التقعيد والتأصيل لحكم الطغيان والبغي،فيما يمكن وصفه بالجريمة التاريخية المكتملة الأركان والبالغة الفداحة.

ثاني الأمرين الذي يمكن قراءة هذه الخرجة في إطاره،هو قوة ومدى المحاصرة السياسية التي تتعرض لها هاته التعبيرات الحركية من طرف خصومها الأيديولوجيين،وكذا من ملاك السلطة والحكم بكل ثقلهم،بالإضافة إلى القلق والتحرج الذاتي العميق الذي تملك هؤلاء جراء ملابسات تفجر الحراكات الشعبية العربية،التي مارست ضغوطا ثقيلة على أصحاب النهج الإصلاحي/التدرجي،دافعة إياهم في حركة قهرية غالبة إلى وجوب الإلتحاق بمسيرة الهز

والخلخلة لبعض أبنية السلطة،وأنظمة الحكم.فالتيار في قوة اندفاعته وفجائيته لم يكن ليسمح لهؤلاء أو لغيرهم بممارسة لعبة الغياب عن أفق المشهد،مرغمة الجميع على تطويع خطابه ليصير قادرا على التناغم مع روح "الثورة" المنتشرة في حنايا الإنسان العربي/المسلم،هذا التماس الخفيف مع تطلعات الشعوب والإحتضان الميكيافيلي لمطامح الجماهير الحالمة بالإنعتاق،والذي لم يكن انحيازا مبادئيا صار اليوم يشكل إزعاجا غير محتمل يتوجب التنصل منه بشكل تام حتى يكون عودهم مقبولا إلى حظيرة الخدام/الموالي فيما يشبه أوبة سياسية متعقلة من ضلال ثوري مهلك.فمن جراء محاولات الحرس القديم المبثوثة أياديه القذرة مثل أخطبوط داخل مفاصل "الدولة العربية" الرئيسة والحساسة إستعادة مواقعه،وبالنظر إلى الرسائل المبطنة والمنذرة بالوعيد التي كان ولا يزال يبعث بها إلى كل من أبدى تشفيه المعلن في تساقط رؤوس الأنظمة الديكتاتورية،ومن بعد ما تم التلاعب بسيكولوجية تلك الزمر من خلال وضعها تحت مسلسل من الضغوطات المفيركة المتتالية،وبعد الإلتفافات الداخلية والخارجية على روح ومسار تلك الحراكات "الثورية" أحست وكأن مطبا توريطيا قد نصب لها بإحكام لتقع بين كماشاته.هذا الحرج وهذا القلق هو ماولد لديها وفي لحظة مأزقية فوبيا مهلكة من مجرد الإنتماء إلى ذات الأرض والميدان والمشتركات مع حاملي الرؤية التغييرية الجذرية،وهو ما فرض عليها ملحاحية المفاصلة مع كل من/ما يحيل على كل فعل أو قول يحمل أية ظلال ثورية أو تغييرية.وهذا الأمر هو ما دفع بها إلى وجوب القيام بإعادة التأسيس لخطابها السياسي،وممارسة عمليات محو وبتر قاسية وعنيفة ضد كل التعبيرات اللغوية ولو في أبسط تراكيبها الدلالية التي يمكن أن تسمح للتأويلات الخارجية بالإشتغال على أدبياتها.هكذا رأينا كيف تحدث تلك السلسلة من الإغارات السياسية المنتظمة التي تقوم بها نظم السلطة ضد أصحاب المدونة السياسية الدينية

فتكا شديدا في جدار مناعتها وإصابات بليغة تربك حساباتها وذلك عبر إخضاعها لعملية تأديب قاسية جراء طيشها وتهورها،لتتحول الحالة في وضع سوريالي بمسحة مأساوية يبعث على الفجيعة،من أن تكون مأزق نظام يعاني تحشرجات موت سياسي محقق،إلى أن تصير مأزق تنظيم لم يحسن إدارة صراعه مع عصابة السلطة،وذلك بأن جعله مجرد مؤاخذات عتابية لا تقض لهم مضجعا،ولا تطير من أجفانهم نوما،بدل أن يكون وفق منطق الخصومة الجذرية التي لا تقبل بغير الإجتثات حلا،وتلك هي ضريبة القبول بأنصاف الحلول التي يرغم فيها "الإصلاحي" ذاته على مساكنة الفرعون المتوحش-هو وإياه- على صعيد سياسي واحد.

قد يتوهم الأنصار أن هذه "التراجعات" بما هي تكتيكات مرحلية تدبر الراهن المأزوم،إنما تندرج في إطار ذكاء استراتيجي يجب أن يحمد لأصحابه،بينما يحسبها الغرماء مكرا براغماتيا منحطا يموه المبدأ والمرجع في ثنايا تلونات مواقفية لا تخلص لأية قاعدة أخلاقية،فيما الحقيقة هي أن هذه الحركة هي الوريثة لفقه سياسي فتاك وجه أعنف قذائفه إلى روح الأمة،فأبطل دورها من التاريخ،واغتال عصمتها ومركزيتها،ونصب الحاكم/الفرد فوق قمة العرش،وألبسه أردية ميتافيزيقية،في أسوء أنواع المحاباة ولو كان الأمر على حساب حقيقة المعتقد والشرع،وضد حاكمية الأمة وأحقيتها الأصيلة في إدارة مجالها الزمني، فهي لا ترى لها وجودا بمعزل عن الإيفاء بشروط الطاعة والخضوع المطلق للسلطان وفق نصوص مفخخة هي بالأساس وبالمقصد مصادمة لروح الدين الذي يمثل بحق مهد الوعي بالحرية،ومناقضة للفطرة الإنسانية الأصيلة.لذلك فإن هؤلاء المشكلين للطيف الحركي في أغلبهم الأعم لم يكونوا ولن يكونوا على الإطلاق أهل رؤية تحررية/ثورية،لأن العدة الفقهية التي هي بمثابة النصوص المؤسسة لمشروعهم ولعملهم،هي عدة سلطانية ارتفع الواقع في وعيها المأزوم إلى مرتبة المقدس الذي يحرم حلحلته والمس به،أوخرق تراتبيته بماهو رسم

سماوي متعال لخرائط الحكم والسلطة الواجبة النفاذ والمستحقة للتوقير والتقديس.

إن تفحص الميراث الفقهي الذي يتشكل بين مهاده الوعي السياسي لهؤلاء،يطرد عنا كل تفاجئ أو استهجان تجاه تصريحات وخرجات مثل هاته،فاستكناه المتن الفقهي المؤطر يمنحنا القدرة على موضعة تلك الرؤى السياسية في سياقاتها العامة والخاصة،من غير تجن في حقها لو أننا حققنا لها صلات النسب والإنتماء بأصولها المعرفية الكبرى،الممتدة الجذور إلى بيئات حضارية وأبنية ثقافية مفارقة،لا تجمعها بالأمة وشيجة معتقد أو رباط قرابة،وكذلك من دون انتظار للمستحيل من أهلها،وكأننا نمني النفس بأن يكونوا أصحاب رؤية جذرية،لا ترى للأمة من إمكان تاريخي سوى تثوير العقل والروح والخطاب.من هنا تصير مهمة تفجير المتن الفقهي السلطاني معرفيا ومن دواخله،وهدم دعاماته التنظيرية الكبرى التي عملت على إرساء نزعات الإستبداد والطغيان داخل تلافيف المروية الفقهية بشكل قميئ يفتئت على صحيح الشرع وصريحه،وإسقاط ذلك البنيان المزيف المسمى بتجربة الحكم والسلطة في عهود البيوتات السياسية المتطاولة،الملحقة لحقبها التسلطية بتاريخ الأمة بشكل قسري ظالم،وكشف معايب الخطاب السياسي الخِِلقية والخُلقية أولوية لاتحتمل أية مماطلة أو تسويف،لأن عملا مثل هذا يعد بوابة الخروج من أعصر الغيبة الحضارية والعقلية،التي أصابت الفرد المسلم وأبطلت فعله في التاريخ،وعطلت دوره الشهودي لأجل هدي الإنسانية إلى سيرها القويم.

مجموع المشاهدات: 1192 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة