الرئيسية | أقلام حرة | عن الاجترار مثلا

عن الاجترار مثلا

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
عن الاجترار مثلا
 

 

يوماً ما ضحكتُ كثيراً ومدرِّسة العلوم الطبيعيّة تُحدِّثنا عن الاجترار، بدا الأمر مُثيراً .. أذكر يومها أنِّي نعثّ البقرةَ بالغبيّة، ضحك كلُ من بالقسم إلاّ أستاذتي، لم يبدُ أنَّها كانت سعيدة بالأمر.. أخبرتني أنّ للبقرة أسبابها بالتأكيد .. غيّرتِ الموضوع و ظللتُ لوقت طويل أتساءل، تُرى ما السّبب المنطقيُّ الوضيع الذي يجعلنا نجترّ شيئا انتهت صلاحيته بداخِلنا .. أنهيت دراستي وتخرّجت لجامعة الحياة وأدركت بالأخير أن الإنسان كائن مجترّ أيضا، الفرق فقط أنّه يجترّ حفنة من الأفكار والمواقف بجمجمته والحيوان يجترّ أعشاباً وكومة أشياءٍ أخرى بمعدته. الأمر برمّته عملية تخزين فطرية، يستفيد منها الحيوان ويعاني من تداعياتها الإنسان. فالإنسان بطبعه يجيد اجترار الماضي أكثر مما يمنح حيّزا معقولا لحاضره، فتراه يتحسّر ما امتصّه منه الزّمن أو يحنُّ لأيام طفولته حين لم يكن عليه سوى أن يلعب ويأكل و يرفع ضغط أمه، بل وحتى وهو يتأمّل النجوم بالسماء يكون بالحقيقة يتأمّل جُزءً من الماضي البعيد. الاجترار السالبُ هدر للطاقة بداخل الإنسان فهو لا يعدو أن يكون مُجرّد شحنات معقدة تفسّر حجم الأوجه الباهتة التي قد تصادفها بالرصيف يوميا والتي قد تكون أنت نفسك أحدها.. ولو كنّا نتقن فنّ الاجترار، لكان الأولى أن نجترّ تاريخنا حتى نقي أنفسنا مغبّة السقوط في نفس الحفرة، فالتاريخ لا يعيد نفسه من تلقاء نفسه ما دام الكائن العربي ملتزما بطقوس العمى التّاريخي، وهنا حقّ لي أن أقتبس من ماركس الحكمة الوحيدة من بين كل أفكاره، وهي أنّ التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة ! وبغضّ النظر عن أسباب نزول هذه الجملة التي كانت تخدم بالأساس مصالح المرحلة الانتقالية من الاشتراكية للشيوعية، وبصرف النظر عن العبثية التي أهداها ماركس للتاريخ، فإنني أشهد أن جملته تحمل من الحقيقة أكثر مِمّا تحمله اللغة من معنى.. فهاهي صحيفة نيويورك تايمز الأمريكيّة تعلن للملأ إمكانية تغيير الخارطة السياسية للشرق الأوسط في كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن، و هاهو التّاريخ من جديد يعيدُ مأساة اتفاقية سايكس بيكو أو ما يعرف بتفريق تركة الرجل المريض التي أجرتها دول الوفاق أثناء الحرب العالمية الأولى سِرّاً وبناء على أسس استعمارية بحثة والآن تعاد مسرحية تقسيم الشرق الأوسط أو ما سأُسمّيه بتفريق تركة الرجل الميِّت سريرياً، علناً وبناء على اعتبارات طائفية و دينية هذه المرّة يضمن شرعية التدخّل كملاكٍ عارٍ من صفات الملائكة. ورغم أنّ نيوتن لا يغريني للإبحار في الفيزياء والرياضيات_ وهذا بالتأكيد راجع لخلايا دماغي الرمادية المتواضعة_ فإنّني الآن أجدني مرغما على الاعتراف أن نيوتن استطاع أن يختزل الكثير مما يمكن أن أنزفه على حالنا هنا حين قال أنّ لكلّ فعلٍ ردّ فعل مساو له في المقدار ومضادّ له في الاتجاه . فالتاريخ كما سبق وقلت لصديق لي قبل أيام، لا يُقتل ولا يذاب في حمض الهيدروفلوريك، هو ينتقل في حمضنا النووي جيلا عن جيل، لأنّه شيء يصعب اجتثاثه بأعظم آلات الحفر الحديثة ومن يريد تكذيبه فل يُقنع نفسه أوّلا . مأساتنا أننا لا نكذّبه، نحن نتجاهله وحسب! كما تتجاهل البلدية إصلاح الإسفلت والحفر

مجموع المشاهدات: 975 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة