الرئيسية | أقلام حرة | حبات القمح

حبات القمح

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
حبات القمح
 

 

كتبت هذا المقال و أنا أفكر بحسرة في الطالب المزياني و في كل من يضربون  عن الطعام و يعتصمون و يناضلون لحد الموت و لحد تعريض روحهم و قلوبهم و عقولهم و أبدانهم للأذى. كتبت هذا المقال و أنا أتساءل كيف يمكن إقناعكم أن الوطن يريدكم أحياء و أصحاء و سعداء و مشرقون و أنتم مستعدون للتضحية بكل شيء فقط  لتظهروا لنا كم الوطن قاس و لا يهتم.  

 

وضعت القمح الصغير في الغربال و أخذت تغربله في صحن كبير صنع خصيصا لتحضير الكيك. تململت يديها قليلا فتناثرت بعض حبات القمح فوق طاولة المطبخ. لم تستسغ حبات القمح الأمر و شعرت بأنها منبوذة و بأن حياتها لا قيمة و لا معنى لها و بأنها لم تعد ذات فائدة تذكر. كما أنها لم تستطع أن تستوعب لماذا هي بالذات  من نالها الظلم و الحيف و لم تجد مبررا لهذه التفرقة التي طالتها مما جعلها تتساءل هل توجد حبات قمح درجة أولى و حبات قمح درجة ثانية و إن كانت خريجتا نفس الغربال؟

فصرخت إحدى حبات القمح بأعلى صوتها لزميلاتها: " لن نرضى بأن يتم إقصاءنا بمنتهى السخافة من صنع الكعك. إن منطق التهميش و الإقصاء و التحقير قد ولى. إن القمح وجد ليتحول إلى رغيف أو بسكويت. لن نرضى  أن نكون في مزبلة التاريخ و تنتهي حياتنا في قمامة. سنناضل حتى الموت لنحافظ على كرامتنا و سر وجودنا"

تحمست حبات القمح لكلمات زميلتها فقررن  أن يرفعن  لافتات الاحتجاج و يصرخن  بأعلى صوتهن يطالبن بالحق في الإنتاج و الحق في إثبات الذات و بأن جميع حبات القمح متساوية  في الحقوق و الواجبات.

في حقيقة الأمر، حبات القمح لم تدركن هل صراخهن العالي كان يسمع أم لا كما أنهن كن يجهلن الخصم الذي سبب لهن هذه الكارثة. فبحكم جسمهن الصغير جدا كان يصعب عليهن أن يتعرفن على المطبخ كما أن سيدة المطبخ بالمقارنة مع حجمهن كانت تبدو لهن عملاقة و يصعب تحديد و لو جزء صغير من ملامحها أو حتى ماهيتها. و لهذا عندما كن يلمحن طيفا  يتحرك اتجاههن كن يشعرن بالأمل و بأن نضالهن سينتصر في النهاية و لكن ما إن يبتعد الطيف حتى  يشعرن بالأسى و الإحباط و اليأس و الملل. و بين الصراخ و الاحتجاج و مشاعر الأمل و اليأس، جاءت يد و منديل و مسحتهن جميعا على حين غرة إلا حبة قمح واحدة نجت من هذا القصف المباغت  لتكون شاهدة  في نظرها على هذه التراجيديا الشكسبيرية التي تم  فيها تصفية  أكثر من مائة حبة قمح لأنها طالبت بحقها في الإنتاج و الإسهام في صنع الكعك.

حبة القمح الناجية أصابتها الهستيريا و أخذت تصرخ بتوتر في زميلاتها القابعات في الصحن  "احذرن  الأيادي الناعمة.. احذرن  القصف.. سيتم إيذاؤكن جميعا..، إنهم متوحشون لا يرحمون.. ستعذبن.. ستعدمن..  احذرن  الأيادي الناعمة.."

حبات القمح القابعات في الصحن لم ترين المجزرة التي راحت ضحيتها رفيقاتها و لكن صراخ حبة القمح الناجية ، توترها و عصبيتها جعلهن يتوجسن و أصابهن الهلع و الجزع، فأخذن يختلقن حكايات عن أن قصفا جويا محتملا سيصيبهن ليبعثرهن و يمحوهن من الوجود و بأنه قد يتم اختراقهن بواسطة جواسيس أو أجسام مجهولة غريبة مؤذية . الحكيمات منهن ظللن هادئات و قررن أنهن لسن لا أول و لا أخر حبات قمح في الوجود و عليه لا يوجد ما يستدعي القلق.  حفظ & إضافة جديد

في قمة الفوضى و الهلع التي كانت تشعر به غالبية حبات القمح، و ضعت سيدة المطبخ بودرة الشكلاطة و البيض و السكر بلا مبالاة ، و هي منشغلة بالصراخ في وجه ابنها المدلل ليكف عن إزعاج والده المنشغل دائما بأخبار شباط و بنكيران و كرة القدم.

بدت  أن نبوءة الجواسيس و الأجسام المجهولة المؤذية صادقة مما زاد  من حالة التوتر و الرعب داخل الصحن.  عمت فتنة و بلبلة  و حالة من الفوضى يصعب السيطرة عليها. البرودة و جسم البيض اللزج جعل حبات القمح تشعر بجسمها ثقيل و لا تقوى على حمله بل بدى لها أنها لم تعد ذلك الكائن الذي تعرفه و أضحت شيئا أخر. حبات الشكولاطة اختلطت مع حبات القمح فذابا في بعضهما البعض مما خلق في حبات القمح ريبة و قلق و شك كبير حيث بدت معظم حبات القمح تتساءل من تكون: حبة قمح أم حبة شكلاطة أم هما معا؟. معظم حبات القمح أصبحت مقتنعة بأنها تتعرض لمخطط جهنمي و لمؤامرة كارثية تهدف إلى محو هويتها بالكامل. و لهذا معظم حبات القمح رفعن بتلقائية و عفوية لافتات الاحتجاج يصرخن بأعلى صوتهن يطالبن فيها باحترام هويتهن و كيانهن و بتحريرهن من هؤلاء المستعمرون و المستوطنون الجدد في صحنهن. فقط الحكيمات و الضريرات بدت غير مكترثات بما يحصل بل بدت مستمتعات  بالبيض و يسبحن فيه بمرح.  

 

في خضم الاحتجاج و الصراخ، ظهرت سيدة المطبخ. حبات القمح المحتجات، اعتقدن أن مطالبهن ستلبى و أن نضالهن انتصر و صوتهن سمع فهدأن قليلا و هن يتغامزن فيما بينهن بفرح. شغلت سيدة  المطبخ،  بلا مبالاة ،الخلاط الكهربائي لمزج العناصر لصناعة الكيك  فتطايرت بعض حبات القمح و الشكلاطة في الهواء لتسقط فوق طاولة المطبخ. حبات القمح بدا لهن هذا القصف مباغتا و عنيفا و غير أخلاقي. ثلاث دقائق كانت كافية لتمتزج جميع العناصر فيما بينها و لا يبقى أدنى أثر لحبات القمح و لا للبيض و لا للشكولاطة و لا لحبات السكر. أما حبات القمح التي نجت من هذا القصف و سقطت في الطاولة فإنها فررت أن تسجل بأسى -قبل أن يمسحهن المنديل الناعم من الوجود- بأن هذه هي ثاني تراجيديا  شكسبيرية تعرضن لها و بأن التاريخ لا بد أن يسجل  و يحكي عما تعرضن له من إبادة جماعية و الخير كل الخير في حبات قمح المستقبل.

مجموع المشاهدات: 1164 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة