الرئيسية | أقلام حرة | شخصيات موسمية

شخصيات موسمية

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
شخصيات موسمية
 

 

عند بداية كل دخول مدرسي تحضرني العديد من الذكريات الجميلة و الأخرى القليلة الحزينة و تمر أمام عيناي الكثير من الوجوه التي عاشت لفترات داخل أسوار المدرسة,وكل عام أتذكر الكثير من الشخصيات التي ملأت جنبات المؤسسات التعليمية التي مررنا بها, وأثثت فضاء قاعات الدرس التي احتضنتنا ,ولكن شخصين متميزين مازلت احتفظ لهما بمكان خاص داخل مفكرتي,يتعلق الأمر بأستاذ اللغة العربية أيام الإعدادية وبتلميذ درسته في تلك القرية النائية البعيدة عن الحضارة.                                                                                                                    

كان الأستاذ متميزا في كل شيء,في هندامه,في لغته, في طريقة تعامله معنا,لقد كان سابقا لزمانه ولزملائه,كنا نستمتع بحصص اللغة العربية رغم أن كل الإعدادية كانت تنتظر حصة التربية البدنية لتفرغ  العقد التي الصقوها بنا أيام التقويم الهيكلي وزمن السلطوية التي انتشرت في كل مرافق الدولة آنذاك .كان يهيم بنا مساء كل ثلاثاء في معلقات الشعر الجاهلي أو قصائد المعري الغارقة في التشاؤم,ليعود ويتفنن في شرح أبيات أبي نواس الخمرية عندما نفاجأ بسكره , نحن المراهقين الصغار,أو أشعار محمود درويش في عز الغارات على فلسطين,كانت أفكاره يسارية من دون أن ينخرط في حزب اليسار العتيد آنذاك. كان يؤمن بالتعبئة والنضال في ساحة المدرسة لا خارجها, لان المدرسة  هي المنطلق وهي القاطرة لتغيير المجتمع حسب اعتقاده , وكان دائما  يردد على مسامعنا بان فرصتنا لتسلق السلم الاجتماعي و تغيير أوضاعنا البئيسة  تكمن في هذا المنفذ الصغير الذي فرض على الدول المتخلفة مقابل تلقي المساعدات الدولية-حسب تحليله لخلفية بداية عهد المدرسة في دول العالم الثالث- لم يكن يبخل علينا بالتشجيع و الهدايا الرمزية جزاءا لنا على إنشاء كتبناه أو قصة قصيرة ألصقناها على سبورة  مجلة القسم أو رسم جميل  شاركنا به في مسابقة مجلة الأطفال , بل كان يجرؤ مرارا على دفع احدنا لتقديم درس من دروس اللغة العربية أمام التلاميذ ساعيا بذلك لتثبيت سلوك المواجهة والثقة بالنفس فينا.لقد كان بارعا في عمله, كما كان يؤمن بأهمية الوقت في حياة الإنسان. ولازلت أتذكر أول لقاء به,لم يحدثنا لا على شخصه ولا على المادة التي سندرسها و لم يطلب منا ملأ الاستمارة البوليسية التي كان يطلبها الآخرون,الاسم و النسب و محل السكنى واسم الأب و الأم و مهنتهما وكأننا داخلون إلى ثكنة عسكرية وليس إلى إعدادية,حدثنا عن أهمية الوقت في حياة الإنسان و عن الاستغلال الأمثل له,وطلب منا أن نخط استعمال زمن  يومي لحياتنا بالموازاة مع استعمال الزمن المدرسي,وان نسجل داخله و طيلة الأسبوع أشغالنا ساعة بساعة,وحثنا على الالتزام به وتجريبه طيلة السنة والقيام بتقويم له عند نهايتها.                                                                                                                                             

   ومرت السنوات سريعة,ووجدت نفسي,  بعد تكسر كل الأحلام الكبيرة التي ملأت عقولنا الغبية, وجدت نفسي امتهن حرفة أستاذي الجليل مخافة أن تتساقط أدراج السلم الاجتماعي الذي كان يتحدث عنه و نجد أنفسنا خارج الحظيرة الاجتماعية.  احتفظت معي وأنا المواطن الراشد, من بين العديد من المبادئ و الأفكار التي حشوا بها   أذهاننا البريئة, احتفظت  بالمبدأين اللذين كان يرددهما دائما أستاذ اللغة العربية , الاستغلال الأمثل للوقت و اغتنام فرصة المدرسة لتغيير الوضع الاجتماعي .                                 .                                                                               

أما الشخصية الثانية التي أتذكرها دائما بداية كل عام دراسي, فقد التقيت بها خلال سنوات العمل الأولى في قرية "يقتات" أهلها من مقلع الرمال المجاور لهم.هو طفل بئيس,كان كل صباح يحمل محفظة بالية  ويمتطي عجلتين بعشرات الثقوب , ليأتي من بعيد قاصدا المدرسة , كل آثار  الفاقة و الشقاء  بادية عليه ولكن علامات النباهة و الذكاء تطل من عيناه.كان يرخي السمع إلى كلامي و إلى الأفكار التي ابدأ و اختم بها الحصة , فيما الآخرون يفكرون في قطعة الخبز و الجبن التي سيملئون بها بطونهم, آمن وحده بفكرة الوقت و التغيير بواسطة المدرسة بينما هجر أقرانه  تخاريف الأستاذ,هم يأتون للمدرسة لشيئين فقط :"المطعم المدرسي" و تعلم العد و بعض الحروف للتمكن من العمل بعد سنوات قليلة  كحمالي رمال أو سائقي الشاحنات. ثابر و اجتهد وتحمل كل أنواع القهر و الجوع وكافح ضد كل من عارضه في مساره,اعتنق شعار"المدرسة طريق الفقراء للتغيير" وعمل دون كلل لخدمة المبدأ النبيل,سهر الليالي       يرمم الثقوب المعرفية العديدة التي تركها الآخرون سامحهم اللهم,وخط لنفسه برنامجا يوميا قاسيا  لتحقيق حلمه و حلم أستاذه.وواصل المسير رغم كل الظروف النفسية و المادية الصعبة التي لاقاها حتى نال الإجازة في مادة التاريخ ليعود بعدها حاملا كل مشاعر الهزيمة و الخذلان.لم يجد عملا,جرب كل الوصفات و المباريات والوساطات و التوسلات ولكنه اصطدم بجدار سميك من الإقصاء المنظم الذي يمارسه المجتمع ضد المستضعفين مثله.لم يكن أبوه من مديري الشركات ولا من الفلاحين الكبار ولا من أعيان المخزن ولا من مريدي "شيوخ "الأحزاب , بل راعيا معدما هاجر هربا من جفاف الجنوب الشرقي ومعه اسم عائلي تصعب كتابته ونطقه فبالأحرى إعطاء وظيفة لابنه. الوظائف تقدم كقرابين للأسماء العائلية الوازنة في مغرب الأسماء العائلية المنسية.رجع إلى القرية بورقة سموها ظلما وعدوانا "دبلوما", لا تقدم لحاملها سوى الآلام النفسية و الاحتقار و الدونية,عاد ليعمل حمالا للرمال كما يعمل منذ أزيد من خمسة عشر سنة زملاؤه الذين تركهم  بعد مغادرة المدرسة إلى الإعدادية,وجدهم بعائلاتهم و أطفالهم هم الذين خبروا منذ سن مبكرة, بان المدرسة إنما وجدت لإعادة إنتاج الصورة ذاتها التي وجدوها في قريتهم,صورة مزيدة ومنقحة تتماشى و عصر الرقميات ولكن من دون المساس بالبيئة الاجتماعية المتوارثة منذ قرون.                                                                                                   

مجموع المشاهدات: 796 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة