الرئيسية | أقلام حرة | الحرب على المجتمع المدني.. كابوس المنع

الحرب على المجتمع المدني.. كابوس المنع

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
الحرب على المجتمع المدني.. كابوس المنع
 

 

مكونات أساسية من المجتمع المدني المغربي، وخاصة في الحقل الحقوقي، أضحت، اليوم، هدفًا لقصف المدفعية الثقيلة للنظام. اجتازت خطة الاستهداف الرسمي لهذه المكونات عدة مراحل؛ ففي مرحلة أولى، أُثيرت قضية وجود نقص في الشفافية يهم التمويل الأجنبي للجمعيات. وفي مرحلة ثانية، جرى توجيه اتهامات خطيرة إلى الجمعيات الحقوقية التي اعتبر وزير الداخلية أنها تقترف ما يلي : 1- "الإساءة إلى سمعة البلاد والإضرار بالمصالح الوطنية"؛ 2- "جعل عمل السلطات العمومية، في مكافحتها للإرهاب، موضوع إعاقة أو عرقلة أو إرباك أو تشهير"؛ 3- "خدمة أجندة أو أجندات أجنبية".

ومن المعلوم أن الجمعيات لا تتسلم أموالاً أجنبية مباشرة وتفعل بها ما تشاء، بل تتلقى دعماً للمشاريع بناء على عقود شراكة. ولا ندري ما هي الوصفة العجيبة التي يجب على العمل الحقوقي، الذي يحترم القواعد والمعايير المتعارف عليها عالمياً، أن يتقيد بأصولها حتى لا يتسبب في الإضرار بسمعة البلاد ومصالحها. أما إذا لم يحترم الحقوقيون، طبعاً، تلك القواعد والمعايير فلن يكون لعملهم أثر ملموس في الواقع ولن يفلحوا في نيل ثقة الأوساط الحقوقية العالمية. ولا معنى لأن نطالب الفاعل الحقوقي بإنجاز تقارير يجامل فيها الحكام ويتحاشى، فيها، ذكر بعض الانتهاكات لضمان "عدم المس" بسمعة المغرب ومصالحه.

التهمة الثانية تجعل من المنظمات الحقوقية حليفاً موضوعياً للإرهابيين لأنها، في نظر وزارة الداخلية، تعرقل عمل السلطات العمومية في مواجهة الإرهاب أو تُشَهِّرُ بهذا العمل وتؤلب الناس ضده. هذه الأطروحة تَمَّ الدفاع عنها، بعد حصول تفجيرات الدار البيضاء في 2003، وعادت وزارة الداخلية إلى ترديدها بعد ظهور قضية بلعيرج، وهي ترمي، عملياً، إلى تمتيع الأجهزة، التي تحارب الإرهاب، بنوع من الحصانة وبنوع من "السِّلْم الحقوقي" والتسويغ المسبق لكل ما يصدر عنها من سلوكات. وبعبارة أخرى، فإن المنظمات الحقوقية تهدد الاستقرار إن هي أصرت على مواصلة أداء رسالتها في بعض "الظروف الخاصة"، التي يكون فيها أمن الوطن ككل موضوع تآمر، إذ في مثل هذه الظروف تتطلب الروح الوطنية –حسب الأطروحة المشار إليها– بناء حلف مقدس مع الأجهزة الأمنية دفاعاً عن الوطن ومساندتها في كل ما تصنع بدون أي تحفظ. الخلفية، التي يتم الانطلاق منها هنا، تقوم على وجود تناقض بين محاربة الإرهاب واحترام الحقوق، بينما الذي يميز دولة القانون، عن غيرها، هو أنه في ظل هذه الدولة، لا يمكن لأية سلطة أن تطالب بحق محاربة الإرهاب بالطريقة التي تشتهي وبدون أي تتبع أو محاسبة أو نقد، علما بأن الدستور المغربي أصبح ينص، لأول مرة، على ربط المسؤولية بالمحاسبة ولا يستثني من ذلك جهازاً من الأجهزة. الحرب ضد الإرهاب ليست فوق القانون، وباسم هذه الحرب ارتُكبت، في المغرب، بعد 16 ماي، تجاوزات أشار إليها الملك، شخصياً، ودور المنظمات الحقوقية، اليوم، هو ألا يُرتكب المزيد من تلك التجاوزات في المستقبل.

أما بالنسبة إلى اتهام بعض الجمعيات بخدمة أجندة أو أجندات أجنبية، فقد وُجِّهَ، دائماً، إلى المعارضين، في كل زمان ومكان، وتكرر إصداره، في المغرب، عشرات المرات، إلى أن فقد كل قيمة، تقريباً، وأصبح لا يثير أي اهتمام لدى الناس ويكاد يُعتبر، بالنسبة إليهم، من قبيل الكلام المُلقى على عواهنه ومن طينة المواقف الجاهزة التي يتصور من يتخذها، عادة، أنه معفي من واجب تعليلها، والتي تصدر، في حقيقة الأمر، عن الشعور بوجه من أوجه الضعف.

اتهام منتقدي أداء السلطة بخدمة أجندة خارجية يمثل عودة بالمغرب إلى الوراء، ويمثل جزءاً من الممارسات المتواترة والمألوفة خلال "سنوات الرصاص"، والتي من المفروض أن تنتهي بانتهاء تلك السنوات.

أكبر الثغرات الموجودة في خطاب وزير الداخلية، الذي تولى فيه كيل الاتهامات الثلاثة إلى الجمعيات الحقوقية، يتمثل، أساساً، في غياب الأدلة والحجج والوقائع الواضحة التي تفرض المسؤولية أن يُرفق بها مثل ذلك الخطاب. فهل دول هولندا والنرويج وألمانيا، والمؤسسات الحاملة لجنسياتها، وهي من أكبر منابع التمويل الأجنبي للجمعيات المغربية، تحيك مؤامرات ضد المغرب وتتربص به الدوائر وتصفي معه حسابات معينة؟ وهل الجمعيات الحقوقية المغربية مُطَالَبَةٌ، كلما قَدَّرَتْ أن من المفيد إبرام عقد شراكة، في خدمة بعض المبادئ المنصوص عليها في الدستور، من خلال أنشطة مشروعة ليس فيها ما يخالف القانون، أن تطلب الإذن من وزارة الداخلية خشية أن يكون وراء قيام الطرف الأجنبي بالتعاون في إنجاز تلك الأنشطة، نية مبيتة أو خطة مريبة أو أجندة معادية للمغرب. 

لقد طالبت الجمعيات الحقوقية،  من وزير الداخلية، الاعتذار أو تقديم الإثباتات التي تؤكد صحة ما يدعيه، فلم يقدم الاعتذار ولم يقدم الإثباتات. وطالبت الجمعيات الحقوقية، من الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري، أن تكفل حقها كجمعيات في الرد، عبر القنوات العمومية، فلم تتلقى أي جواب ولم يُلبى طلبها. 

ومباشرة بعد خطاب 15 يوليوز 2014، ستدخل الحرب الرسمية على المجتمع المدني، مرحلتها الثالثة، وسيتجلى ذلك من خلال مسلسل كثيف من المنع، وسيتدخل ممثلو الإدارة الترابية، بأشكال مختلفة، للحيلولة دون عقد أنشطة مبرمجة من طرف العديد من الجمعيات الحقوقية وهيئات المجتمع المدني، وستتنوع وسائل التضييق على العمل المدني، وسيتم تعطيل بعض الإمكانات التي كانت متوفرة في الماضي ومصادرة أبسط الحقوق التي قد تبدو، ظاهرياً، كمكاسب نهائية لا يتوقع أحد أن يتم الإجهاز عليها، خاصة في مغرب دستور 2011.

وهكذا، أفاد، مثلاً، بلاغ صادر عن المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، مؤرخ بـ 10 نونبر 2014، أن السلطات منعت أزيد من 40 نشاطاً، منذ 15 يوليوز، ومنعت في يوم واحد فقط (فاتح نونبر 2014) 20 نشاطاً دفعة واحدة. كل هذا يؤكد أن تاريخ حقوق الإنسان، في المغرب، لا يخضع لمسار تراكمي قادر على جعلنا نطمئن إلى أن بعض الحقوق غدت نهائية، بل تتخلل هذا التاريخ  دورات من التشدد تكاد تعيدنا إلى نقطة الصفر.

لقد تَمَّ منع العديد من الوقفات ومنع مجموعة من الأنشطة التي أبدت مرافق حكومية موافقتها على عقدها ببناياتها وقاعاتها أو التي بُرمجت، أصلاً، في إطار شراكة مع تلك المرافق، فكأننا بالدولة تمارس المنع على نفسها. وجرى منع جميع المخيمات الحقوقية الشبابية، التي دأبت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان على تنظيمها منذ أكثر من عقدين. ومُنِعَت العصبة المغربية لحقوق الإنسان من تنظيم لقاءات تكوينية لأطرها. ومُنِعَ فرع المغرب لمنظمة العفو الدولية من تنظيم مخيمه الحقوقي السنوي. ووقع منع عدد من اجتماعات الأجهزة الداخلية للجمعيات الحقوقية. وتَمَّ رفض تسليم وصولات إيداع التصريح بانتخاب هيئات مسيرة. ومُنع تكريم الأستاذة خديجة الرياضي. وقد سبق لوزير العدل أن صرح بأن وقائع المنع، هذه، بالصورة التي تتم بها، تقع خارج الشرعية، ولكن هذا التصريح لم يُجْذِ نفعاً ولم يترتب عنه اتخاذ أي إجراء حاسم في اتجاه وقف المنع. أما وزير الاتصال فقد صرح بأن المغرب عرف، منذ يناير 2014 إلى شتنبر من السنة نفسها، تنظيم 4320 نشاطاً حقوقياً من طرف 40 منظمة وهيئة. وبصرف النظر عن شرعية التساؤل المتعلق بنوعية المعايير المستعملة لتحديد "النشاط الحقوقي"، في نظر السيد الوزير، فإن خطابه يذكرنا بطبيعة الرد الذي كانت السلطة تدلي به، كلما تَمَّ اتهامها بقمع الحريات، خلال "سنوات الرصاص"، إذ تلجأ إلى تقديم أرقام عن عدد الجرائد المرخص بصدورها وعدد الأحزاب المسموح لها بالعمل؛ فأية قيمة لتلك الأرقام، مثلاً، إذا كانت تهم أحزاباً صنعتها السلطة، نفسها، أو تهم منابر موالية لها؟ لا يمكن، إذن، إضفاء الشرعية على وقائع المنع لمجرد أن عدد الأنشطة التي لا تُمنع يمثل أضعاف عدد الأنشطة التي تُمنع. وجود الحرية، في أي بلد، يُقاس بقدرة الحاكمين على لجم غرائزهم والتزامهم بعدم عرقلة أو منع أنشطة سلمية أو التضييق عليها، حتى ولو كانت موجهة ضدهم، أو كانوا لا يستصوبون مواقف المنظمين ولا يشاطرونهم الرأي ولا يتقاسمون معهم الأفكار ذاتها.

ويلاحظ أن السلطة تلجأ، في بعض الأحيان، إلى تقديم تبرير للمنع وتلوذ، في أحيان أخرى، بالصمت. وفي حالة تقديم التبرير فإنها لا تتخذ أدنى احتياط لإيجاد علاقة  ما بين الاتهامات الرسمية الموجهة إلى المنظمات الحقوقية وبين مواضيع الأنشطة التي تَمَّ منعها، وذلك، ربما، خوفا من مطالبتها، لاحقاً، بإثبات تلك العلاقة أمام القضاء الإداري.

 

إن حصول كل هذا العدد من وقائع المنع، في حيز زمني محدود، هو دليل على أن هناك، ربما، لائحة سوداء للجمعيات والهيئات التي يبدو أنها مزعجة للسلطة، سواء كانت حقوقية أو غير حقوقية، وأن مسؤولي الإدارة الترابية، في مختلف المناطق، مُنِحُوا سلطة تقديرية واسعة لاختيار الصيغ والوسائل التي يرون أنها تحقق هدف التضييق على هذه الجمعيات والهيئات.

مجموع المشاهدات: 972 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة