من تطوان إلى الرباط… رحلة الكلمة الإسبانية بين جذور المتوسط ونبض العاصمة

من تطوان إلى الرباط… رحلة الكلمة الإسبانية بين جذور المتوسط ونبض العاصمة

بقلم: ضرار هفتي

هناك مدن لا تشبه غيرها، مدن تشبه القصائد التي تولد من حنين قديم، وتطوان واحدة من تلك المدن التي تظل معلقة في الذاكرة كأنها تكتب تاريخها على صفحة البحر. بين حضن الريف وشرفة البحر الأبيض المتوسط، تستقر “الحمامة البيضاء” كجوهرة أندلسية لا يزال صداها يتردد في الأزقة والبيوت والميادين.

تعود جذور تطوان إلى “تمودا” الرومانية، ثم “تيطاوين” في اللسان الأمازيغي بمعنى “العيون المتدفقة”، مدينة نسجت حياتها من الماء والتراث والوافدين الذين حملوا معهم جرح الأندلس بعد سقوط غرناطة. أعاد هؤلاء بناء المدينة على طراز فردوسهم المفقود.أسوار سبعة تحرس الذاكرة، وبيوت بيضاء تتوهج كأنها ضوء قديم يعود إلى الحياة حين يلامسه الصباح.

ومع إدراج المدينة العتيقة في قائمة التراث العالمي عام 1997، واعتبارها إحدى مدن “الإبداع” ضمن شبكة اليونسكو، ظلت تطوان مركزا حيا للفنون والحرف، من مهرجانات العود إلى مدارس الصناعات التقليدية والقصص الشعبية. واليوم، وهي تستعد لاحتضان لقب عاصمة الثقافة المتوسطية لسنة 2026، تبدو كمن يستعيد دوره الطبيعي بوصفه جسرا بين ضفتين، ضفة الذاكرة وضفة المستقبل.

وفي قلب هذا المسار، يبرز صوت أدبي وثقافي من المدينة، هو الدكتور الفتحي، أستاذ التعليم العالي والبحث العلمي في الأدب الإسباني ومنسق ماستر المغرب–إسبانيا–أمريكا اللاتينية الدبلوماسية والثراث، الذي اختار أن يجعل من اللغة الإسبانية أداة للبوح وصوغ علاقة جديدة بين المغرب والعالم الناطق بهذه اللغة. كتب عن الهجرة والمنفى والهوية، وربط القارئ بمضيق صغير يفصل عالمين لكنه يجمعهما أيضا. ولم يقتصر دوره على الكتابة، بل ساهم في إحياء الذاكرة التطوانية عبر مبادرات ثقافية داخل المدينة العتيقة، جعلت من الأزقة مسارا يقرأ لا يمشى فقط.

أما الرباط، العاصمة التي تجمع بين حداثة المؤسسات وإيقاع الثقافة، فقد احتضنت قبل أيام أول معرض للكتاب باللغة الإسبانية. ثلاثة أيام امتلأت خلالها القاعات بالزوار والنقاشات والعروض الأدبية، في حدث وصف بأنه “جسر ثقافي بين المغرب والعالم الإيبيري والأمريكي اللاتيني”. جاؤوا من قارات مختلفة، وجلسوا إلى طاولة واحدة، من الأدب إلى اللغة الرقمية، ومن الشعر إلى قضايا إفريقيا والعالم.

كانت الرباط في تلك الأيام مدينة تنصت. إلى الإسبانية التي يتحدث بها ملايين المغاربة، وإلى القصص التي تحملها الكتب، وإلى الرغبة في أن تتحول الثقافة إلى مساحة للحوار لا للتنافس. بدا الحدث كأن العاصمة تعلن عن ميلاد صفحة جديدة، صفحة تتقاطع فيها اللغات كما تتقاطع الجهات.

وبين تطوان التي تستعد لارتداء ثوب الثقافة المتوسطية، والرباط التي فتحت أبوابها للكتاب الإسباني، يتشكل مشهد ثقافي مغربي واسع، لا يقوم على مركز واحد، بل على مدن تتنفس الثقافة كل على طريقتها.

مدن تجمع الماضي والحاضر، وتعيد وصل ما انقطع بين الضفة الجنوبية والشمالية للمتوسط.

وفي النهاية، تبقى “الحمامة البيضاء” ممدودة الجناحين نحو المستقبل، فيما تبقى العاصمة مكانا تتقاطع فيه الأصوات واللغات. بين المدينتين يتشكل طريق ثقافي جديد… طريق يكتبه المغرب بلغته الخاصة، ويقدمه إلى العالم بثقة المدن التي تعرف وزنها وتعرف معنى أن تكون جسرا لا ينقطع.


هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات