التعليم بين خراب اليقين ويقين الخراب

التعليم بين خراب اليقين ويقين الخراب

حميد الكعال

 

يقال إن تناول الطعام دون حاجة يؤذي الصحة ،كذلك التعليم دون رغبة يفسد الذاكرة.

 

منذ عقود خلت ،والمدرسة العمومية المغربية تلهث وراء حلم مؤجل.إنه حلم الإصلاح. لا هي أدركته،ولا هو انتشلها من خراب اليقين في مدرسة تغرس الرغبة في مرتاديها من أجل تعليم دو جودة ومتكافئ بين الجميع.إن ما تحتفظ به الذاكرة اليوم وكأنه ضرورة حتمية هو يقين الخراب ،الخراب الذي يأتي على كل شيئ :القيم-الانتماء للجماعة-المسؤولية..الخ.

 

ربَ قائل يقول هذه نظرة تشاؤمية لا ترى إلا الجانب الفارغ من الكأس.قد يكون ذلك صحيحا إذا كانت هناك أصلا كأس تنتظر الامتلاء ،لتروي العطشى من الأميين والجهال.

 

1)الإصلاح المؤجل ومنطق صراع الرغبات

 

يبدو أن كلمة "إصلاح" قد فقدت دلالاتها لكثرة استعمالها دون نتائج تذكر ،تماما كما هو الشأن بالنسبة لغيرها من الكلمات والألفاظ.والحال أن من يطالع كتب القواميس سيجد أن "أصلـح" تعني"أتى بما هو صالح وجيد".الصالح والجيد في عرف البراغماتيين ما هو نافع ،ما حسن.وحتى لو بقينا عند هذه الدلالة البراغماتية لكان لزاما على الإصلاح أن يزيل ما فسد في الجسم التعليمي ،ويعيده إلى حالته الأصلية التي تمكنه من أداء المهمة الموكولة إليه ،ألا وهي بناء الإنسان الذي يكون قادرا على بناء الوطن وتحقيق التقدم.

 

تصاعد في السنين الأخيرة ما يسمى بخطاب الإصلاح ،إصلاح الإدارة ،إصلاح دستوري ،إصلاح التعليم ،إصلاح صناديق التقاعد..الخ.القاعدة في المغرب إذن ،هي الفساد ،أما الإصلاح فهو الاستثناء الذي يصدق عليه الوصف "حق أريد به باطل".

 

إن المفارقة المؤسسة لمفهوم الإصلاح تتموقع ضمن الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع.ما تعنيه الدولة بالإصلاح ليس هو ما يفهمه المجتمع من المفهوم نفسه.تربط الدولة الإصلاح بأداء الواجب وتغيب الحق من المعادلة.الإصلاح في عرف الخطاب الرسمي ليس نابعا من سياسة وطنية ديموقراطية ، ليس نابعا من اختيارات إستراتيجية في التعليم لتحويل المدرسة العمومية إلى فضاء حقيقي للتعلم والتربية التي تبني إنسانا حقيقيا وليس إنسانا مشوها يغتال نفسه عند أول امتحان.انه الإصلاح الذي تفرضه الدوائر المالية الكبرى المانحة ،ضمن معادلة بئيسة لسياسة القروض.

 

يربط الخطاب الرسمي بين مفهومي الإصلاح والجودة،تحت يافطة "لا إصلاح بدون تحقيق الجودة في التعليم"، عن طريق الرقي بالتعلمات وتحقيق الكفايات الأساسية التي تمكن المتعلم من الاندماج في سوق الشغل.هكذا تظهر الواجهة ،لكن ما هو خفي أن تحقيق الجودة لا يكون بدون مقابل.من أراد تعليما بشروط أفضل عليه أن يدفع أكثر،تماما كما هو الشأن لمن يشتري منتوجا جيدا(ماركة مسجلة).بمعنى آخر عليه أن يرتمي في أحضان الخواص ،وان لا يراهن على المدرسة العمومية.

 

يستطيع المتتبع للشأن العام أن يفهم تخبط السياسة الرسمية للدولة في مجال التعليم ،وربما قد يكون هذا عن قصد ،حينما يتعلق الأمر بالسياسة اللغوية ،ضمن الموضوع المثير للجدل والمتعلق بلغة التعليم.

 

2)لغة التعليم والعقدة الكولونيالية:

 

هل يملك المغاربة لغة؟ سؤال قد يبدو تافها إن لم يكن مضللا لولا صدمة الوقائع.

 

إن امتلاك اللغة يعني امتلاك القدرة على التعبير بوضوح عن الأفكار.في الغالب نجد جهد المغربي ينصب في جزء كبير منه على اللغة ،يوظف كلمة ثم يستبدلها بأخرى ،يصحح الأولى بالثانية ،وأحيانا يكون الحديث متداخلا بين الفصحى والدراجة والفرنسية العالمة و"الشعبية"،ناهيك عن كون إنتاجات العديد من الكتاب تجد فيها مقابلات باللغة الفرنسية لجمل باللغة العربية ،لماذا؟ هل ليقولوا لنا إنهم أكثر انفتاحا؟أم أنها عقدة الكولونيالية المتوغلة في الجذور الدفينة للاشعور؟.ان المسالة لا تكمن في إتقان الإنسان للغات الأجنبية ،فهذا أمر ضروري ،ولكن في أن تصبح اللغة الأجنبية هي معيار الانتماء، المعيار الذي يتحكم بولوج المناصب العليا، معيار التحضر والثقافة .

 

يستغرب الواحد منا كيف إن بعض المسؤولين المغاربة أثناء لقائهم بأجانب ،يتكلمون الفرنسية حتى ولو كان هؤلاء الأجانب ليسوا فرنسيين !!!.

 

إن مسالة اللغة شائكة في منظومة التربية والتكوين ،ومن يستهين بها عليه أن يراجع قدراته العقلية.اللغة ليست فقط أداة للتواصل ،بل أداة للسلطة والجاه.تتجه السياسة الرسمية ببطء نحو ترسيم الدارجة حتى ولو لم تعلن على ذلك ،لان الوقائع تثبت ذلك(نشرات الأخبار-لافتات الإشهار..) ضمن مخطط ما يعرف بلغة الأم. ترى أي أدب سينتجه المغاربة في المستقبل ؟.إلى جانب هذا المستوى الخفي،اعتمدت السياسة الرسمية تعليم الفرنسي في السنة الأولى من التعليم الابتدائي إلى جانب العربية الدارجة ،لماذا؟ ما الهدف؟ هل لنعلن للعالم(الفرنسيين خصوصا)إننا أكثر انفتاحا؟لماذا الفرنسية وليس الانجليزية؟ ما القيمة المضافة إذا كان هذا التلميذ الذي يدخل المدرسة يخرج منها وهو لا يعرف أية لغة؟ إضافة إلى ذلك تجربة الباكلوريا الدولية "خيار فرنسية" التي ابتدأت بالجذوع المشتركة والآن انتقلت إلى السنة السابعة إعدادي ،والتي يحكي بعض المدرسين عن مهازلها،تلاميذ لا يعرفون حتى الحروف الأبجدية ،بل حتى الخط عندهم فيه مشكلة ،ورغم ذلك هم مسجلون بهذا المسلك؟ المشكل هنا انه حتى المجتمع انساق مع الوضع تحت حكم الواقع.

 

يعرف القائمون على السياسة التعليمية-او للدقة على السياسة الأمنية في التعليم-وهم بالمناسبة ليسوا رجال سياسة وإنما رجال أمن وإشهار، جيدا هذا الوضع ،ويدركون جيدا أن المدرسة العمومية مثقلة بكم هائل من المشاكل ،لذلك يزيدون من تعقيد المشكل أكثر ،حتى يدفعون بأبناء المغربة نحو التعليم الخصوصي أو ربما تحويل العمومي إلى خصوصي مستقبلا كما يبدو لي على الأرجح.

 

من الواضح أن العقدة الكولونياية حاضرة ليس فقط في السياسة الرسمية بل أيضا حتى في المجتمع.والفكرة الثاوية خلف ذلك "ضرورة أن يعرف الابن أو البنت اللغة الفرنسية حتى يستطيع ان

 

يساير دراسته وبالتالي يتمكن من الحصول على منصب شغل يؤهله للرقي اجتماعيا".هذه الفكرة نجدها حاضرة داخل الأسر والبيوت حيث الجميع يتسابق على شراء "المستقبلات الفضائية" المرتبطة بالانترنت ، لكي يستطيع الأبناء متابعة قناة piwi مثلا.(ربما هذا الوضع يحتاج دراسة نفسية واجتماعية).

 

يدرك الجميع اليوم أن الحقل التعليمي عندنا يتجه نحو نظام من الفصل العنصري:مؤسسات تعليم خصوصي يرتادها أبناء الميسورين ،ومؤسسات تعليم عمومي مزيج بين المهمشين وأبناء بعض الفئات من الطبقة الوسطى إن كان هذا الوصف مازال صحيحا.إن من يدفع أكثر هو من يستطيع أن يلج أعلى الوظائف داخل الهرم الاجتماعي.هنالك تكمن العقدة الكولونيالية التي تتحكم في الجميع.

 

3)تحول التعليم إلى كازينو:من القمار بالنقط إلى القمار بالقيم والمبادئ.

 

من العبارات التي استرعت انتباهي أن التعليم عندنا أصبح مثله مثل الكازينو،تتحدد قيمة من يلجه بمدى الربح الذي يجب أن يجنيه ،والمتمثل في الحصول على أعلى الشواهد والدبلومات ،طبعا والتي تتماشى مع ما هو مطلوب اقتصاديا ،تضمن أرباحا قياسية. قد يكون هذا ليس عيبا(الحصول على أعلى الدبلومات) ،ولكن العيب هو ان تتحول فئة عريضة داخل المجتمع إلى فئة فاقدة لأي حس بالانتماء (رجل هنا ورجل هناك ،وان كانت هذه الخاصية الشعورية أصبحت مشتركة بين الجميع) هذه النزعة الربحية ذات الجذور المتوغلة في العقلانية التقنية (أو كما يسميها البعض بالعقلانية الاستراتيجية) نجدها متحلقة عندنا حول المدارس الخاصة ومدارس البعثات الأجنبية ،وهي التي كونت عندنا فئة تسمى ب"الناس الكبار".وفي الواقع فان كل"السياسة التعليمية" عندنا مفصلة على مقاس هؤلاء.والفرنكفونية اللغوية إحدى جذور هذا التفصيل. ومن أخطار هذه النزعة الكازينوية تحويل التعليم الى حساب بنكي ،من يملك أعلى المعدلات والنقط يزداد تميزا،وعلى أساس ذلك تنشأ تمييزات بين تلميذ نجيب منفصل عن مجتمعه لكنه سيصبح هو عنوان ولوج الوظائف العيا في الدولة ،وتلميذ متوسط "ما غديش يمشي بعيد".ويمتد هذا التمييز إلى حدود المجتمع فيما بعد. إن تعليما مفصول عن القضايا الأساسية للمجتمع قد حول هذا المجتمع الى طابور من المقامرين المتحلقين حول قيم الحقد والأنانية .مجتمع يتجه نحو خرابه المحتوم.هنا نجد أن السياسة الرسمية للدولة قد نجحت في تفكيك المجتمع عملا بقاعدة "انا ومن بعدي الطوفان"(خصك تجلس في الطاولة الأولى + قرا مزيان كي تحصل على نقط مزيانة ويكون عندك مستقبل ودير الفيلا والطوموبيل).

 

ما هو لإنسان الذي تعده منظومة التربية والتكوين؟كيف سيكون جيل المستقبل؟لعل عبارة محمد جسوس ما زالت صالحة للتوصيف في هذا المقام :"جيل من الضباع".جيل يسهل التحكم فيه،يسهل تجييشه كلما دعت الحاجة،جيل يخوض في سير الأشخاص عوض نقاش أفكارهم.كيف يمكن أن تتحدث عن ربط المسؤولية بالمحاسبة في هذا الوضع المأزوم ،حيث الأزمة هي الوضع الطبيعي؟

 

من المفارقات المؤسفة أن المغاربة يرفضون نتائج النظام التعليمي ،وبالمقابل يقبلون ولا يدينون النظام التعليمي المسؤول عن هذه النتائج.في نهاية التحليل يبقى الجوهر المسؤول قائما ،وأي تغيير فانه لا يطال سور الأعراض بلغة الفلاسفة.

 

في الواقع ليست هناك تنشئة اجتماعية فعلية للإنسان-المواطن.هناك مدرسة-مصنع تخرج المهمشين من جهة والنبلاء من جهة ثانية. ويمكن تلخيص ماسبق في الصورة البلاغية التالية والتي لا تخلو من دلالة رمزية:

 

"لا شيئ في صباح الليل غير صمت يفيض على هذه الأرض.

 

صباح الليل يحمل الخيال إلى آخر المستحيل.

 

لم يبدأ شيئ حتى ينتهي.

 

المسافة هباء".

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة