الأشد نفاقا
عبد العزيز الإدريسي
عندما بدأ الحديث عن مشروع القانون الإطار المتعلق بمنظومة التعليم، اشتغل الإعلام الالكتروني والورقي ومن خلاله انشغل المهتمون بصفة خاصة والمواطنون بصفة عامة، وفي مقدمة هؤلاء السياسيون، و أصبح كل يدلو بدلوه ويطرح أفكاره، وكثيرون منهم ينددون بهذا القانون الإطار الذي (سيفرنس) التعليم، ووقع جدال عقيم ولم يكن في الواقع إلا نفاقا سياسيا، والدليل هو تمرير هذا القانون والمصادقة عليه بالإجماع، واختفى كل من كانوا يعارضونه، وبدأوا بتبرير مواقفهم بكلام غير منطقي وغير مقبول وهم يراهنون من خلال تبريراتهم السياسوية اليائسة، لأنهم كانوا في الظاهر ينددون وفي الباطن يحبذون من أجل جلب المنافع السياسية معتقدين أن المواطن المغربي غافلا عما يدور ويجري من حوله من دسائس سياسوية، لأن المواطن المغربي أصبح يدرك جيدا أين تكمن مصالحه بفضل الوعي الثقافي والسياسي الذي اكتسبه بتداول التجارب وتعاقب الأيام، وتناوب الأدوار السياسوية دون تأطير من الأحزاب السياسية، مما أهله ليكون بالمرصاد لهؤلاء الذين يبخسون وعيه ونضجه وإدراكه، وما هو عليه اليوم من قدرة عالية على تأويل الأحداث والوقائع وما تصبو إليه المقاصد والغايات التي يحاول بعض السياسيون أن يركب عليها قصد الوصول إلى الهدف المنشود إما بالمساندة والدعم المشروعين، أو من خلال التنديد الزائف المنفصل عن الذات أو بعبارة أدق "الازدواجية" ذات حبلين، أحدهما صلب قد يقاوم العواصف، وهو المستنبط من المساندة والدعم المشروعين المرتبطين بالواقعية والشفافية المستمدة خيوطها من إدراك وقناعة المواطن بأن الأمر يهم المصلحة العامة، دون تمييز أو تفاوت أو تفضيل.
أما الحبل الثاني فهو الهش المتفكك القابل للانحلال والعطب السريع، وهو الذي أساسه النفاق والغش والتبخيس، والاعتقاد بأنه ماض في الطريق الصحيح بينما العكس هو الصحيح، وبالتالي قد ينقلب السحر على الساحر، عندما يدرك المقصود الحقيقة وتنجلي الضبابية وتشرق الشمس، وحينها يصبح المزدوج الشخصية وصاحب الوجهين المندد والمؤيد من النادمين، سواء أكان هذا السياسي من التيار الإسلامي الذي يدعي احترامه للوعود بينما لم يلتزم، وقد يقسم البعض على تقديم الاستقالة إن هو لم يفلح في المشروع الذي يزعم، ولكنه لا يحترم هذا القسم، وقد يعوضه بقسم ثاني الا انه لا يقدم استقالته لسبب من الأسباب، وقد يبرر قراره هذا بالمصلحة العليا للبلاد، وكأنه من غيره قد تهوي البلاد ويضيع البشر، ولو أن الذين هددوا بالاستقالة فعلوا لكانت البلاد في حال آخر أحسن وأفضل مما هي عليه الآن.
الجدال في عمقه يدور حول مشروع قانون الإطار 17.51 المتعلق بمنظومة التربية والتعليم، وإنني من هذا المنطلق أعتقد شخصيا أن مشروع الإطار جاء بايجابيات أكثر من السلبيات، ويقال ما لا يؤخذ كله لا يترك جله، وبما أن الايجابيات أكثر من السلبيات فالأمر مقبول وله منافع أكثر من المضار، بما انه يضمن الإنصاف وتكافؤ الفرص في ولوج المدرسة والاستفادة من خدماتها المتيسرة من خلال مجانية التعليم والتشديد على إلزامية التربية والتعليم دون تمييز بين الحواضر والقرى فضلا على انه ينص على تجويد اللغتين العربية التي هي الأصل، والفرنسية التي هي الفرع، والانفتاح على اللغات الأجنبية الحية، والمقصود هنا المتداولة في المحافل الدولية، كما هو الحال بالنسبة للبحث العلمي و إتقان العلوم الصناعية والتكنولوجية التي أصبحت تتطور بشكل ملفت، وبأقصى سرعة الزمن، والتحولات الرقمية المتسارعة من صناعة الآلات المدنية والحربية والمعدات الفلاحية، والمياه التي هي مستقبل العالم وبدونها تتخلف الأمم وتفتقر للمصداقية ويحكم عليها بالتبعية.
وبلغة العقل والمنطق فمشروع قانون الإطار يعتبر في حد ذاته كمدخل لإصلاح منظومة التعليم ببلادنا، إلا أن تفعيل مضامينه يقتضي توفر الإرادة القوية، و حسن التدبير والحكامة الجيدة، والمشاركة الفعلية من لدن الجميع وأساسا الفعاليات المختصة بالإسهام الوازن من خلال فتح المجال واسعا أمام الشركاء من المؤسسات المعنية ، الأمر الذي من شأنه أن يرد الاعتبار للمدرسة العمومية كما كانت عليه في الستينات والسبعينات.
الجدال حول مشروع قانون التربية والتعليم
اعتقد أن هذا الجدال محتكر من طرف الساسة وبعض رجال الدين والوصوليين، وكل منهم وحسب مركزه يعطي تأويلا لهذا المشروع وفق مآربه السياساوية أو الفكرية وهو يحاول باغتنامه الفرصة لإسماع صوته إلى المواطن العادي وهو ناسيا أو متناسيا بأن هذا المواطن لا تنطلي عليه الادعاءات الزائفة، ولا هو مبال بها لأنه أصبح يملك من الوعي الثقافي ما يفوق تصور السياساوي الذي همه هو أن يركب على الدابة سواء كانت سليمة أو عرجاء، الغرض هو توسيع دائرة الجدال لعله يضفي على نفسه صفة الخابر للأمور ويعرف مصلحة الوطن أين تكمن؟ ويقول المثل ( اللي في راس الجمل في راس الجمالة) (وديرها غير زوينة) (وما يبقى غير الصح)، فالمواطن فطن باللعبة السياساوية وفقد الثقة فيما يأتي من السياسي أو بصفة عامة الأحزاب السياسية التي أعطاها المواطن المغربي كافة الفرص وفتح لها ذراعيه ولكنها خالفت الموعد مع الزمان والمكان، وكان المواطن هو الضحية لأنه لم يبق يفرق بين:
- الاشتراكي
- الليبرالي
- الإسلامي
- العلماني
- الشيوعي
- اليساري
وهنا تكمن الطامة الكبرى عندما يمل المواطن من وعود الأحزاب السياسية وأساسا التي تتزعم الأغلبية الحكومية فالرجعة هنا إلى أين؟ فالكل أبان عن فشله، لذا على هؤلاء الركون الى مقراتهم وإصلاح أنفسهم من الداخل، وتطهير ذواتهم من خلال بناء جيل سليم من أبناء هذا الوطن الذي أصبح يئن تحت وطأة الانتهاز بين السياساويين وما أكثرهم، ومن الواجب الآن تجفيفهم من الساحة السياسية ومحاسبتهم محاسبة عادلة.
الواقع والصحيح
أن اللغة العربية لا محيد عنها وهي الأصل كما سبق ذكره، وأن الدراسة بلسانها فرض عين على كل مواطن مغربي إكراما لشهداء العروبة والإسلام، وتنزيها وتقديسا لدماء الآباء والأجداد الذين ضحوا بالغالي والنفيس من اجل حرية هذا الوطن وحفظ كرامته والدفاع عن لغته والتي هي هويته ووحدته الترابية، وصيانة روافده وعاداته وتقاليده، وحفظ الدين والعقيدة اللذين يتميز بهما المغرب، وهو البلد الذي ساهم في نشر الدين الإسلامي، تربية ولغة في القارات الأربع سواء من خلال التجارة أو السياحة أو البحث العلمي والتحصيل العلمي، فكثير من الشعوب الإفريقية والآسيوية والأوروبية اعتنقوا الإسلام على يد مغاربة وهو أمر يعتز به المغاربة قاطبة بإعلاء كلمة الله ونشر قواعد الدين الإسلامي الحنيف من خلال تدريس اللغة العربية ومتونها، ولكنني أرى أن تدريس اللغة الفرنسية ليس بعيب أو عار بل
تنوير للعقول والانفتاح على العالم الذي لنا به ارتباط وثيق في المعاملات التجارية والصناعية والتكنولوجيا الحديثة المتطورة، بحيث بدراسة اللغة الفرنسية أو غيرها من اللغات الحية يستطيع المغربي أن يلج عقول الفرنسيين، ويتعرف على عاداتهم و تقاليدهم، ومشاريعهم التنموية، الأمر الذي من شانه أن يجعل المغربي قادرا على التوغل فيما بين الأمم الناطقة بالفرنسية، والاطلاع على علومها ومبتكراتها التكنولوجية، وبالتالي يستعمر البلاد والعقول من خلال لغتهم وعلومهم ويواكب إلى جانبهم سبل التقدم والحضارة واستثمارها في بلده الأصل "المغرب".
إذن تدريس اللغة الفرنسية إلى جانب اللغة العربية التي هي الأصل لا ضير فيه، بل هو أسلوب حضاري تقدمي يرمي إلى النهوض بالتربية والتعليم شريطة العمل على تجويد اللغتين بكل علومهما الأدبية، والعلمية، والفكرية، والصناعية، ولا ننسى أن التلميذ في بداية الاستقلال كان يلج المدرسة وهو يبلغ من العمر ردحا من الزمان، ومثل هذا في جلهم تحملوا مسؤوليات جسام و أبانوا عن قدراتهم وأبلوا البلاء الحسن في الإدارة العمومية، وفي التعليم، والطب، والهندسة المدنية، والصناعية، وبناء القناطر والسدود والموانئ، وأنهم كانوا عندما يلجون المدرسة الابتدائية، تكون من البيت الأول أو ما يصطلح عليه بالقسم الأول ابتدائي، وهو القسم الذي تكون فيه الدراسة بالعربية فقط، أما القسم الثاني ابتدائي فيتعلم اللغة الفرنسية دون إغفال اللغة العربية، وهكذا إلى أن يحصل على الشهادة الابتدائية، ومن هنا، قد يصبح معلما أو موظفا إداريا أو يلج المدارس الصحية أو مراكز التكوين التي تنمي معرفته، وقد يتابع دراسته بالإعدادي والثانوي، وعندما يحصل على الباكالوريا له الاختيار في متابعة دراسته باللغة العربية أو الفرنسية أو بعض اللغات الأخرى كالانجليزية أو العبرية، إلا العلوم والطب فهي باللغة الفرنسية، وجل الأطر المغاربة الأكفاء درسوا بهذه الكيفية، وتقلدوا مناصب عليا عن جدارة واستحقاق، وهم الذين ساهموا وبكل جهد جهيد في تنمية البلاد، فيهم الأستاذ، الطبيب، المهندس، القاضي والمحامي.
لهذه الأسباب، فمشروع قانون الإطار يعد مدخل لإصلاح منظومة التربية والتعليم، وسببا إيجابيا في عودة الاعتبار إلى المدرسة العمومية، ومن له رأي آخر فالباب مفتوح أمامه، إما لولوج المدارس النظامية أو ولوج المدارس الخصوصية، والمطلوب هو المراقبة الصارمة من اجل تعليم جيد ينهض بالبلاد والعباد إلى الأمام، أما الذين يجادلون في هذا القانون الجديد فبدون استثناء، أولادهم يدرسون بالفرنسية في المدارس الخصوصية أو البعثات التعليمية الفرنسية داخل المملكة أو خارجها، وهم بهذا الجدال العقيم الذي ليس من ورائه إلا جلب الأنظار وكسب التعاطف السياساوي، والعود إلى المثل الذي يقول (يبيع القرد ويضحك على من شراه)، اتقوا الله في أنفسكم ولا تبخسوا ذكاء المواطن المغربي.
اللهم احفظ هذا البلد الأمين من الطامعين الأشرار، وامنن على أبناءه الكرام الورعين الطامحين الى الخير ورفاهية الوطن وحفظهما، وحفظ الله المغرب شعبا وملكا، وأدام عليه الأمن والاستقرار.
وختاما لهذا المقال المتواضع، أقول و أنا واثق من قولي بأن المغاربة لا يثقون إلا في ملك البلاد الذي هو آمالهم معلقة عليه، وكلهم وراء جلالة الملك محمد السادس سدد الله خطاه، وأنار طريقه خدمة للوطن والمواطن، آمين.
