سيادة الوطن وحماية وحدته وثوابته

أقلام حرة

23/10/2019 15:57:00

الحسين بوخرطة

سيادة الوطن وحماية وحدته وثوابته

استعمر الوطن لأن الإنجازات الحضارية لأهله كانت ضعيفة أو تكاد تكون دون المستوى المطلوب لمقاومة الأطماع الامبريالية في تلك الفترة. لقد تحول ترابه إلى محط تركيز القوات الأجنبية، وأصبح فضاء للأبحاث النفسية والاجتماعية والإثنولوجية والأنتروبولوجية والاقتصادية والثقافية، إلى أن تأكد، في بداية القرن العشرين، أن الأهالي، الذين كانوا منغمسين في ثقافة تقليدية بالية، لا يعبرون عن أي وعي بالتطورات الدولية في بداية القرن العشرين. بالموازاة مع ذلك، شاع لدى القوى الأجنبية غنى التراب الوطني، والقصور في القدرة لدى المغاربة لاستغلال إمكانية ترابهم، وأعطي الانطباع في نقاشات القوى العظمى، وكأن المغاربة لا يستحقون خيرات بلادهم. وهناك من الفاعلين وطنيا ودوليا، للأسف الشديد، من برر هذه الاستنتاجات الأجنبية، بدون التصريح بذلك بشكل مباشر، بتفاقم عدد المحميين بالسلطات الأجنبية الطامعة، وهناك من عبر، في إطار تفاوضه الذاتي، كون قيادة الأمة المغربية للدخول في مسار تحديثي، وتسريع تحقيق أهدافه، لا يمكن أن يتم إلا من خلال تسليم السلطة المؤسساتية إلى دولة غربية متفوقة حضاريا. فعلا كان، لقد تم إعداد الظروف المواتية لعقد مؤتمر الجزيرة الخضراء، الذي توج بسليم سلطة تدبير البلاد، من خلال عقد الحماية لفرنسا، بحيث أعطيت الانطلاقة لبرامج معدة مسبقا لتهيئة التراب الوطني (طرق، مسالك، سكك حديدية، قنوات الري، ....) تسهيلا لاستغلاله، الاستغلال الذي دام لأكثر من أربعة عقود. لقد عاش المغاربة مرحلة طويلة من التفاعل مع المعمرين وسلطة دولتهم الاستعمارية إلى برزت بوادر الوعي بحق الشعب المغربي في خيرات بلاده، لتشتعل المقاومة هنا وهناك، بحيث تكونت قيادة سياسية بنخب مركزية تنظيرية وأخرى ترابية ميدانية. لقد تمكنت هذه الأخيرة من إعداد القوات الشعبية لرؤية انعكاس صورة المرحوم محمد الخامس على ضياء القمر، لتجد فرنسا نفسها مضطرة للخروج معلنة الاستقلال المستحق نضاليا، والمنقوص مؤسساتيا.

 

لقد تجندت النخب القيادية في الحركة الوطنية إلى جانب عاهل البلاد المغفور له محمد الخامس، وتم إعلان شعار "المرور من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". إلا أن كثرة التناقضات، وتفشي انعدام الثقة ما بين الزعامات السياسية والنقابية والمؤسساتية، حول "الجهاد الأصغر" المحقق إلى "جهاد أكبر"، وإلى إنجاز تاريخي تحقق بدماء الثوار المقاومين، ليتم تقزيم طموح تحقيق "الجهاد الأكبر" ليتحول إلى مرحلة صراع قاتل، عطل عجلات تقدم البلاد لمدة تفوق ثلاث عقود. لقد سادت طوال هذه السنوات العجاف تفاعلات لم تكن سوى "أفعالا" و"ردود أفعال" بمنطقين مختلفين، يمكن اعتبارهما "وطنيين" في العمق، لكنهما متناحرين، منطقين تعددت أطرافهما مع مرور الوقت إلى درجة أصبح تبادل الاتهامات ب"الغدر" و"التآمر" من هذا الطرف أو ذاك معضلة سياسية معقدة، عسرت التقارب بين النخب الوطنية والقصر، لتبرز على هامش أجندة تنمية البلاد اقتصاديا ومؤسساتيا، تيارات سياسية جديدة، جعلتها الظروف السياسية، وضعف السلط التقديرية لدى الفاعلين، من أكبر المستفيدين من خيرات المغرب المستقل.

 

لقد وصل الوطن إلى الباب المسدود في بداية التسعينات، وتم إعلان في نفس الوقت عبارة "لا غالب ولا مغلوب" و عبارة "المغرب مهدد بالسكتة القلبية". لقد تحول هذا الإعلان إلى "فزاعة" لحماية الاستقرار واستمرار المؤسسات"، ودخلت البلاد إلى منعطف جديد منطلقه التوافق على القيادة المشتركة للبلاد،

 

دولة وشعبا، في أفق تجسيد الإرادة الشعبية في بناء المؤسسات الرسمية وديمومة فاعليتها الديمقراطية. لقد تم إعلان هذا التوافق في سياق تطورات دولية بقطب واحد، يفرض الانفتاح الاقتصادي والتنافسية. لقد جسد هذا التوافق التقاء إرادتين أساسيتين في هرم الدولة المغربية، التقاء توج بتحقيق نتائج إيجابية وهامة جدا، عبرت عنها حصيلة حكومة عبد الرحمان اليوسفي، ليكون المغرب من المستفيدين نسبيا من إستراتيجية تأهيل اقتصاديات الدول المتخلفة أو النامية في مسار تحرير أسواقها ومؤسساتها الإنتاجية تحت قيادة المنظمة العالمية للتجارة، والمؤسستين الرائدين كونيا، وهما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

 

وفي إطار الاستمرارية، باشر العهد الجديد سياسة الانفتاح بالميول أكثر، نظرا لضعف الإمكانيات، إلى خيار تهيئة التراب الوطني بالبنيات التحتية، وإلى العمل على توفير اليد العاملة المؤهلة بشكل كاف من خلال وثيرة المضاعفة السنوية لعدد خريجي معاهد التكوين المهني والمدارس الهندسية والتقنية، ومصاحبة هذه السياسة التكوينية بتأهيل العنصر البشري، خصوصا على صعيد المؤسسات القيادية على المستويات الترابية المركزية والجهوية والإقليمية والمحلية. لقد كانت هذه الخيارات استراتيجية اضطرارية في طبيعتها، مكنت الدولة من الحفاظ على التوازنات العامة والتحكم في نسبتي التضخم وعجز الميزانية، لكنها فرضت، بالموازاة تأجيل التعاطي مع إكراهات التنمية الاجتماعية المتراكمة. إن الاستجابة الاضطرارية لتوجهات النيوليبرالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص والغرب بشكل عام، جعل الوطن يتحمل وجع ارتفاع نسب الفقر والهشاشة والأمية وتفشي نزعات الرجوع إلى الوراء (الرجعية العقائدية المكرسة للرجعية الثقافية) بالرغم من إقرار استراتيجيات رسمية على المستويات التعليمي والتكويني والصحي.

 

واليوم، بعدما تم تفقير الطبقة الوسطى بالخيارات السياسية المنحازة لخدمة الرأسمال والحفاظ على التوازنات الماكرواقتصادية، وبروز ظاهرة تفضيل الأبعاد المصلحية الحزبية في العمل السياسي على حساب الوطن، في فترة حكومة عبد الإله بن كيران، أصيب مصدر دخل الطبقات السفلى النشيطين في غالبيتهم بالقطاع غير المهيكل بالفتور بفعل ارتباط أنشطتهم بدخل الطبقة الوسطى (الباعة المتجولون، المقاولون الذاتيون في ميدان البناء والحرف المتربطة به، والتجار بنصف الجملة وبالتقسيط في مختلف المجالات،.... ). في نفس الوقت، تسرب الكساد إلى الأنشطة التصنيعية بفعل تراجع الرواج التجاري بسبب إضعاف القدرة الشرائية (تراجع قطاع البناء، وتجارة السيارات الجديدة والمستعملة، وقطاع التجهيزات المنزلية،....) .

 

فأمام هذا الوضع، وتجاوبا مع دعوة جلالة الملك إلى بلورة وتفعيل نموذج تنموي جديد، وجدتني مضطرا للتعبير عن واقع اليوم بلوحات أصبحت بارزة في المجتمع ومهددة إلى حد ما لمقومات العيش المشترك.

 

اللوحة الأولى: تراكم أعداد ضحايا الهدر المدرسي أصبح يثير القلق، خصوصا أمام ارتفاع عدد الجرائم وضحايا الانحراف وعدم وجود مؤسسات التنشئة وإعادة التنشئة ببلادنا بشكل كاف. لقد برزت في شوارع وطننا ظواهر مرتبطة بالعنف والمخدرات ("التشرميل"، "الكالة"، "القرقوبي"، الاعتداء على الأصول، اغتصاب الأطفال، السيطرة على الملك العمومي بالقوة، ...... )،

 

اللوحة الثانية: سيطرة التفاهة على القاموس التواصلي بين الأطفال والشباب، قاموس استهلاكي، من صنف "الوجبات السريعة"، لا يثير في الشخصيات المتواصلة أي ضرورة للتأمل والتفكير، ليرتفع

 

مستوى استهلاك التفاهة في أغلب المؤسسات الإعلامية تحت ضغط نسب المشاهدة ومداخيل الإشهار. أما ما تطالب به الطبقة المتنورة من برامج ثقافية وتربوية، فأصبح بدوره مشوب بالحذر والاحتراز إلى درجة لم يعد للمنشطين لهاته البرامج أية حرية في اختيار المشاركين خوفا من الخروج عن السياقات المرسومة مسبقا والسقوط بين مخالب رؤسائهم، ليجدوا أنفسهم مضطرين لاستدعاء "المضمونين" (الضمانة مقابل الريع) بالرغم مما يترتب عن ذلك من ملل لكثرة اللجوء إلى نفس الأشخاص. فحتى المدافع، غير المقتنع، على هذه الأذواق الجديدة، فيقوم بذلك بدافع حماية نفسه من غضب الجمهور وحرمانه من مداخيل مكانته الفنية أو الإعلامية أو الثقافية، مضطرا لإخضاع إنتاجاته لميولات ولغة الشارع.

 

اللوحة الثالثة: شباب منغمسين في عروض شاشاتهم الهاتفية النقالة، حتى وهم راكبين على دراجاتهم الهوائية أو النارية، الشيء الذي ترتب ويترتب عنه أضرار بليغة جدا. فإضافة إلى كثرة حوادث السير وضحاياها من صنف الصغار والكبار، تتسبب هذه السلوكات توترات بليغة في الشارع العام بفعل القلق الدائم الذي ينتاب السائقين والراجلين وأرباب الأسر. أما التفاعل وجها لوجه بين أفراد الأسرة الواحدة، والذي كان فضاء تربويا بامتياز، فقد سقط بين مخالب الفردانية والعزلة، ليعيش كل فرد من هذه الأسر عالمه الخاص، عالم مشوب بالمخاطر النفسية والجسدية، وحتى الجنائية.

 

اللوحة الرابعة: نوازع الخوف، والحذر، والنوايا المعبر عنها، المسيطرة على سياسات قيادة التغيير والتحولات المجتمعية، خلق منظومة للانتقاء تضرب في العمق مبدأ المساواة وتساوي الفرص. فالمشاركون (بالاقتراع أو التعيين)، الذي عبروا عن استدعائهم بالمشاركة بالمقابل (الاستفادة من الريع)، لا يطيقون للأسف الشديد انضمام أي فاعل للدائرة المؤسساتية التي يشتغلون فيها، حتى وإن كان من نفس انتمائهم الحزبي. فالخوف من المنافسة يدفعهم إلى رفض الطاقات حتى وإن عبرت عن استعدادها للخضوع لهم. فحتى في حالة اعتراف الدولة بمؤهلات النخب الجديدة، والتعبير عن حاجتها لخدماتهم، يصبح "فيتو" اللوبي المتحكم هو الحاسم، لتصبح المؤسسات مرهونة بنزعات ذاتية لا تمت بمصلحة المواطنين بصلة. فبالرغم من ضغوطات الظرفية السياسية والثقافية والاقتصادية الوطنية والدولية التي تفرض إبعادهم، يبقى تكتلهم، أمام تشتت القوى الوطنية الجادة، مقاوما لكل مبادرات التغيير. وهنا، بالرغم من الاستمرار في التمادي في التشبث بهذه الممارسات لدى العديد من النخب التقليدية، لا ننكر أن التحركات، المنبعثة من هنا وهناك، قد ساهمت نسبيا في تجديد النخب محليا وإقليميا وجهويا ووطنيا.

 

اللوحة الخامسة: الخروج من حالة التخبط في المساطر التي لا تميز بين هاجس تقوية الأمن العام وهبة مؤسسات الدولة، والحرص على التفعيل السليم للقاعدة القانونية، والدعوات المتكررة لتبسيط المساطر. وكما هو معمول به في مجال الضرائب وقطاعات أخرى، حان الوقت لربط تسليم الوثائق والشواهد الإدارية الخاصة بالمواطنين بتصريحاتهم الكتابية الرسمية، مع إخضاعها للمراقبة البعدية، وتحميل المصرحين المسؤولية الكاملة في حالة إلحاق ضرر معين بشخص ما أو بالأمن العام. لم تكن يوما دعوات تبسيط المساطر مرادفة لخرق القاعدة القانونية كيف ما كانت الدوافع والاعتبارات. فالإدارة، كمحرك أساسي للتنمية، لا يمكن أن تتمكن من تحقيق الأهداف النبيلة لوجودها المؤسساتي ما لم يتم المرور إلى فرض جدادات المناصب للعاملين بها، وبلورة البرامج القابلة للتفعيل لكل منصب، وتتبعها، وتقييمها باستمرار. أما مشروع تعميم التدبير الإلكتروني للإدارة المغربية، ولوثائق هوية المواطنين

 

وممتلكاتهم، فيحتاج اليوم إلى تقوية العزائم والإرادات لمواجهة جيوب مقاومته نظرا لما سيضمنه من شفافية في التدبير اليومي لمصالح المواطنين بشكل مباشر أو غير مباشر.

 

خلاصة

 

 

إن إعلان حاجة البلاد إلى بلورة وتفعيل نموذج تنموي جديد، لا يمكن أن يكون في العمق إلا تعبيرا واضحا عن وجود إرادة سياسية وطنية لخلق أسس جديدة للعمل السياسي، إرادة تجسدها التقائية واضحة المعالم للقوى السياسية والمؤسساتية لتثبيت المقومات الصلبة لسيادة الدولة، ودمقرطة نظامها السياسي، وتطوير اقتصادها، وحماية ثوابتها التاريخية، والسير بسرعة أكبر في مسار تحديث ثقافتها المجتمعية.

مجموع المشاهدات: 365 |  مشاركة في:
        

عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟