كرونا والقيم الإنسانية

أقلام حرة

08/04/2020 16:20:00

عبد الله كركيش

كرونا والقيم الإنسانية

الأزمات تكشف معادن الناس؛ فكم من القيم التي كِدنا نفتقدها في حياتنا اليومية، وكم هي الآن في حاجة إلى أن تبرَز بشكل أقوى وأجلّ.

 

سأصدِّر هذا المقال بأسئلة إشكالية يتأسس المقال من خلال الإجابة عليها، وهي:

 

1)ماهي القيم الإنسانية الأصيلة التي كشفت عنها أزمة كرونا؟

 

2)لماذا القيم الإنسانية وليست القيم الإسلامية؟

 

3)ما هي معايير الشخصية الإنسانية؟

 

4)وهل هناك ما يميز الإنسان المسلم عن غيره في مجال القيم؟

 

فهذه أسئلة إشكالية أثيرها في هذا المقال الذي أود أن أسهم به في تنوير الرأي العام.

 

فأقول وبالله التوفيق فيما يخص السؤال الإشكالي الأول:

 

1) ماهي القيم الإنسانية الأصيلة التي كشفت عنها أزمة كرونا؟

 

من القيم الإنسانية الأصيلة المعيارية التي تجلت بقوة في هذه الأزمة الوبائية العالمية قيمة التضحية، والتي تحلى بها بشكل منقطع النظير الأطقم الطبية بشكل عام، وكذلك الأطقم الإدارية بمختلف أعمالها. هؤلاء هم المجاهدون حقا والمؤمنون حقا والمضحون بأوقاتهم وحياتهم وأهليهم؛ يتصدون لمواجهة هذا العدو الخفي بكل فناء وتضحية إنها والله لتضحية ليس لها نظير، ولا يقدر عليها إلا الخُلَّص من الناس.

 

وهناك صنف آخر ممن هم أيضا في الصفوف الأمامية لمواجهة هذا العدو، وهم رجال السلطة بمختلف ألوانهم وأشكالهم، ورجال الأمن بكل أطيافهم، هؤلاء أيضا يضحون بأنفسهم وأوقاتهم من أجلك ياوطني ومن أجلك يامواطن وليس المطلوب منك أكثر من أن تلتزم بيتك؛ لتسلم أنت ويسلم الوطن من كارثية وجائحة لا مرد لها إلا الله ثم التزامنا وطاعتنا لولاة أمورنا.

 

في مثل هذا المقام يقول الله تعالى:{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} ]المائة الآية: 32].

 

فهذه الآية تنطبق على كل من أسهم بشكل أو بآخر في قتل نفس، وتنطبق كذلك على كل من أسهم في إحياء نفس أخرى فهؤلاء المضحون بحياتهم من أجل أن تحيا الأنفس ويحيا الوطن ولو على حسابهم فأي تضحية أعظم من هذه التضحية !

 

ومن القيم الإنسانية التي برزت في هذه الأزمة قيمة الصبر والتي تجلت في أولئك الذين ذكرتهم آنفا، وتجلت كذلك في كل مواطن التزم بالحجر الصحي، فلولا تحلي الناس اليوم وخاصة أولئك الذين هم في الصفوف الأمامية في مواجهة هذا العدو بقيمة الصبر لما استطعنا ولا يمكن أن نتغلب على هذا العدو المخيف والرهيب.

 

وفي مثل هذا المقام يقول الله تعالى في بيان أهمية هذه القيمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ البقرة اللآية: 153]، وقوله تعالى:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [ البقرة الآية: 155]، وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [ آل عمران الآية: 142]، وأي جهاد أعظم من هذا الجهاد؟ ، وقوله تعالى:{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [ لقمان الآية: 17]، فهذه من وصايا لقمان عليه السلام، وفيها إشارة إلى أن الصبر من عزائم الأمور التي لا يستطيعها كل الناس؛ لذا أعظمَ الله أجر الصابرين. قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر الآية 10].

 

ومن القيم الإنسانية الأصيلة المعيارية التي برزت في هذه الأزمة الإنسانية العالمية أيضا، قيمة التضامن، وهذه القيمة الإنسانية تكشف كذلكم عن معدن الإنسان، وهي قيمة نابعة عن قيمة أخرى وهي قيمة الرحمة، وهاتان القيمتان العظيمتان من القيم الإنسانية يعبِّر الإنسان من خلالهما عن إنسانيته، وعن شخصيته السوية ذلكم أن الذي يفكر فقط في مصلحته ولا يفكر في غيره فهذا لم يذق طعم الإنسانية ولم يجد ريحها؛ إذ الإنسان من يهتم بأمر أخيه الإنسان.

 

وأي مجتمع تتجلى فيه مثل هذه القيم يكون مجتمعا حيا، مجتمعا متراحما، مجتمع الإنسان الواحد، وفي هذا الصدد يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍوَاحِدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أَيْضًا: الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ، اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ "

 

عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»"1".

 

ولكي نصل إلى هذا المستوى من المجتمع الواحد لا بد أن نعلم أن الحياة حق مشترك وتحقيق السعادة فيها مسؤولية الجميع. فمتى نصل إلى هذا المستوى من التفكير الإيجابي؟ !

 

وهناك قيم أخرى لا يسع المقام بعرضها حسبنا هنا أن نبرز بعض القيم التي جلَّتْها بقوة هذه الأزمة العالمية. هذا جواب على السؤال الأول.أما عن السؤال الثاني:

 

2) لماذا القيم الإنسانية وليست القيم الإسلامية؟.

 

كل القيم الإنسانية هي قيم إسلامية لكن لماذا لم نذكر القيم الإسلامية بدل الإنسانية؟

 

القيم يمكن لكل إنسان أن يتحلى بها بغض النظر عن معتقده؛ إذ القيم وإن كانت من الدين فإنك قد تجدها في غير المتدينين أكثر منها في المتدينين، فالإنسان بطبعه يميل إلى فطرته التي فطره الله عليها، وقد جُبِلَّت الفطرة الإنسانية على مجموعة من القيم الفطرية وخاصة إذا بقيت الفطرة الإنسانية على سلامتها الأصلية التي فطر الله الناس عليها.

 

وهنا نشير إلى مسألة غاية في الأهمية وإن كانت في مقام آخر غير أن سياق المقال جيئ بها للفائدة؛ ذلكم ما يتعلق بوصايا النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار الزوجين، رزكزت هذه الوصايا على أمر قلّ من يتفطن إليه ومن ذلكم قوله صلى الله عليه وسلم: ((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)) [قال الألباني]: حسن"2". والحديث له صيغ أخرى. هذا فيما يخص الزوج، اما فيما يخص الزوجة: فعنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى إِحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ: تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى مَالِهَا، وَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى جَمَالِهَا، وَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى دِينِهَا، فَخُذْ ذَاتَ الدِّينِ وَالْخُلُقِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ)) صحيح لغيره"3".

 

والمسألة المثارة في هذا الحديث أو في هذه الوصية النبوية هي التركيز على أمرين أساسيين في اختيار الزوجين هما، الدين والخلق. والسؤال المثار هنا هل الأخلاق ليست من الدين؟ والجواب نعم هي من الدين، وإذا كنات الأخلاق من الدين فلم التركيز عليها في الحديث؟

 

الجواب إن شاء الله هو أن مجال الدين مجال علاقة الإنسان بربه، لكن مجال الأخلاق إنما هو مجال علاقة الإنسان بالغير، ثم إن الأساس الذي تقوم عليه علاقة الإنسان بربه هو العبادات، بينما أساس علاقة الإنسان بالغير الأخلاق والمعاملات.

 

ومن خلال هذه المسألة المثارة يتضح الجواب أكثر على السؤال الثاني: لماذا القيم الإنسانية وليست القيم الإسلامية؟ لأنه في مثل هذه الأزمات تبرز القيم الإنسانية بغض النظر عن معتقد هذا الإنسان أو ذاك.

 

ومن هنا نعرج على السؤال الثالث في هذا المقال وهو:

 

3) ما هي معيايير الشخصية الإنسانية؟

 

إن المعايير الحقيقية للشخصية الإنسانية هي مدى تشبثها بالقيم الإنسانية من التضحية والرحمة والصبر وغيرها، المعايير هي المعاملات الإنسانية الموسومة بالصدق والإخلاص والوفاء،..وغيرها.

 

إن مفهوم الشخصية من المفاهيم التي تحتاج إلى مقال خاص؛ لأن المعايير التي يقيس بها الناس " الشخصية" تختلف من ثقافة لأخرى وليس المقام مقام بيان ذلك.

 

أما عن السؤال الرابع في هذا المقال وهو:

 

4)هل هناك ما يميز الإنسان المسلم عن غير في مجال القيم؟

 

القيم الإنسانية لا دين لها ولا وطن؛ من حيث ممارستها على أرض الواقع فالناس فيها سواسية، وقد نجدها في غير المتدينين أكثر مما نجدها في المتدينين كما أسلفت في هذا المقال.

 

والقيم الإنسانية هي معيار التفاضل بين الناس في الدنيا، ومعيار التفاضل عند الله أيضا قال تعالى:

 

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [ الحجرات الآية: 13]. ولنتأمل النداء في الآية جيدا " ياأيها الناس" ولم يقل ياأيها

 

الذين آمنوا. فالتقوى التي هي معيار التكريم فالمطالب بها الناس كل الناس بمختلف ألونهم بغض النظر عن معتقداتهم، والتقوى في تجلياتها هي تلك القيم التي تكشف عن معادن الناس وخاصة في مثل هذه الأزمات، وهي المعيار الذي توزن به شخصية الإنسان الإنسانيِّ.

 

الفرق الذي يمكن الحديث عنه بين المسلم وغيره في هذا المقام هو من حيث الجزاء الأخروي؛ فيختلف الأمر بين الناس كما هو معلوم.

 

خلاصة القول: إن القيم الإنسانية هي قيم كونية، وهي المعيار الحقيقي الذي يتميز به الناس ويتفاضلون فيما بينهم.

 

وكم من نقمٍ في طياتها نعمٌ وأن النظرة الإيجابية للمحن تحولها إلى منح ربانية فيسعد الإنسان بها وهو في أزمته، وفي أصعب ظروفه، والعكس صحيح فالنظرة السلبية للأمور وللأزمات تعمق من آثارها ويفقد الإنسان معها حقائق لا تتجلى له إلا بالنظرة الإيجابية.

 

كتبه الأستاذ عبد الله كركيش أستاذ مادة الترية الإسلامية وباحث في سلك الدكتوراه بجامعة ابن زهر كلية الشريعة آيت ملول أكادير تخصص الدراسات القرآنية السنة الثانية .

 

الهوامش:

 

1 ) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم المؤلف: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ)، المحقق: شعيب الأرناؤوط - إبراهيم باجس،الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة: السابعة، 1422هـ - 2001م

 

2) المسند الموضوعي الجامع للكتب العشرة المؤلف: صهيب عبد الجبار. [16/132]

 

 

3) مسند الإمام أحمد بن حنبل.[18/287]

مجموع المشاهدات: 939 |  مشاركة في:
        

عدد التعليقات (1 تعليق)

1 - بلال
شكرا على هاذا الموضوع الهائل ستفدت منه كثيرا شكرا
مقبول مرفوض
0
2021/01/17 - 03:46
المجموع: 1 | عرض: 1 - 1

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟