التعليم العتيق خزان للعلم والعلماء
عبد اللطيف أجدور
ترادف لفظة عتيق، الشيء الضارب في التاريخ، المتجذر الأصول، لكنها تُحمل أحيانا ما لا تطيق، لما يطلقها البعض مريدين بها تجاوزا ما هو متجاوز وغير مواكب. يمكن أن تمتد بعض الحمولة التي ذكرت للتعليم العتيق، لكن تقصيا بسيطا يعكس الزخم الذي يحظى به هذا الصنف من التعليم في المغرب، وفي بلاد عربية أخرى، وما ينطوي عليه من قامات علمية، وأعلام قائمة في العلوم بشتى صنوفها، وهو ما تعرض له الأسطر اللاحقة.
إن التعليم العتيق، نظام تعليمي يتأسس على حفظ القرآن الكريم من حيث هو منبع كل المعارف، والعلوم الشرعية التي تصدر عنه، وقد تم تطعيمه بمواد علمية تطبيقية تواكب مستلزمات العصر، بما فيها مواد العلوم الطبيعية، والفيزيائية، واللغات والإنسانيات. ومن الواضح أن حفظ القرآن الكريم الذي يعتبر شرطا للالتحاق بمؤسسات هذا الصنو، يرخي بظلاله الوارفة على قوة الذاكرة لدى الطلبة، واتقاد ملكاتهم اللغوية، وتفتق ينابيع الخصال والخطابية والتبليغية، كما توفر له المراجع الأصولية، خاصة في العلوم الشرعية، كالمنظومات والمرجوزات والمصنفات الكبرى، سواء في الفقه أو السيرة أو التفسير، توفر زادا معرفيا ولغويا وتعبيريا ضخما، يجعل الطالب الحذق ينهل من مصادر شتى، تحوله لمصدر زاهر في النثر والنظم، وفي الاستنباط والبلاغة والنحو.
يعد التعليم العتيق امتدادا لأول الجامعات التي عرفها التاريخ، وهي جامعة القرويين بفاس، بل إن صيغ التدريس نفسها ما تزال سائدة في هذه المؤسسات المباركة، خاصة في طريقة تحفيظ القرآن الكريم، التي تعتمد على الكتابة على الألواح الخشبية، باستعمال الصمغ المعد طبيعيا، وكذا في طرق تدريس العلوم الشرعية الأخرى، كالتفسير والفقه وعلوم الحديث وعلوم البلاغة والنحو، حيث تتم غالبا عبر حفظ منظومات شعرية تتضمن القواعد العامة، وأصول هذه العلوم وتفصيلات أحكامها، فيما يعتبر تعليم المواد المصاحبة، أو مواد الثلثين كما يصطلح عليها، شبيها إلى حد بعيد بالصيغة المعلومة في التدريس العمومي، من حيث الصيغة والمحتوى.
تتوزع مؤسسات هذا الصنف من التعليم، في شمال إفريقيا على وجه الخصوص، خاصة بالمغرب الذي يعتمد على نظام الزوايا أحيانا، وفي الجزائر وتونس، وفي مصر على شكل كتاتيب قرآنية، وتواجه هذه المؤسسات العديد من الإكراهات، التي تهدد استمراريته، أولها غياب التمويل الكافي حيث ينظر إليه كقطاع هامشي غير ذا أولوية، وتعتمد المؤسسات في غالب الأمر على إعانات المحسنين، وهبات من أشخاص ذاتيين أو اعتباريين، يحملون هم العلم الشرعي، ودوام حفظ الأجيال للقرآن الكريم واتصالهم به.
يكابد الطلبة كذلك إشكالا آخر، يتجلى في بعد مستوى الامتحانات الاشهادية، عن مستواهم الحقيقي، حيث تتم تسويتهم في الاختبارات مع أقرانهم من العمومي، في الوقت الذي لا يعبرون من نفس المسارات، فمثلا لا يبدؤون في تعلم اللغة الفرنسية إلا في السنتين الأخيرتين من السلك الإبتدائي، وهي مدة غير كافية لاختبار تم إعداده لتلامذة قضوا ست سنوات في تعلم هذه اللغة بغلاف زمني وافر، ويمكن مثلا صياغة، برامج ومناهج، وكذا اختبارات مخصصة للتعليم العتيق، تراعي خصوصياته.
يمكن تسليط الضوء على إحدى أعرق المدارس بشمال المغرب، وأكثرها إنتاجية، نتحدث هنا عن مدرسة سيفودة الخاصة للتعليم العتيق، التي تعتلي بمهابة ربوة في سفوح جبال الريف المحاذية للمتوسط الوديع، تأسست المؤسسة ذات يوم مبارك من سنة 1989م، على يد الحاج مصطفى الفريهمات الذي حبس أرضا مساحتها 1026م، وكانت بداية الأمر مسجدا يمتد على مساحة قدرها ثمانون مترا، ثم ما لبث أن تم توسيع المؤسسة سنة 1992م، وتتألف مرافقها من مسجد وجناح داخلي لإقامة الطلبة، وكذا مطبخ وقاعات للتدريس، إضافة لمكاتب إدارية وقاعة وسائط، ناهيك عن باحة.
يبلغ عدد الطلبة التي تؤويهم المدرسة أزيد من 120 طالبا، يفدون إليها من مختلف الأقاليم والمداشر في المنطقة، ويقوم المحسنون بالإضافة إلى منح وزارة الأوقاف بتوفير المأكل والمشرب للطلبة، ودفع المكآفات للأساتذة المدرسين، والأعوان والإداريين.
يتم توجيه الطلبة لحفظ القرآن الكريم أساسا، ثم تدريجيا ينفتحون على تلقي العلوم الشرعية، والمعارف الأخرى كاللغات والعلوم الطبيعية. لقد قدمت المدرسة منذ تأسيسها أسماء كبيرة، وخرجت علماء أجلاء، خدموا دين الله وعباده، وألفوا في الفقه والسيرة والأصول، وأموا الناس وأفتوهم، ونفعوا أينما أمضاهم الله، فذاع صيت المؤسسة وصارت محجا لطلاب العلم والتوفيق.
شكل التعليم العتيق عبر التاريخ رافدا مهما، طالما مدنا بعلماء أفذاذ، وبأئمة عظام، وبخطباء مفوهين حذقين، عمروا الأرض صلاحا وعلما.