أخبارنا المغربية - فاس
قال محمد عبدلاوي، أستاذ بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس إن الرهان الحقيقي للصناعة التقليدية لا يكمن في الخوف من المكننة بل في الاستعداد الواعي لمستقبلها عبر قراءة دقيقة للتجارب الدولية واعتماد مؤشرات واضحة للإنتاجية والتشغيل والتصدير، وإدماج الصناعة التقليدية ضمن الاقتصاد الإبداعي والترابي مع توظيف انتقائي وذكي للمكننة يخدم القيمة المضافة ويحمي المهارة اليدوية المتراكمة عبر قرون ويعزز الرأسمال اللامادي والتنمية المحلية دون تحويل الآلة إلى أداة لمنافسة الصانع التقليدي أو تفريغ الحرفة من بعدها الثقافي والهوياتي.
وانطلق محمد عبدلاوي في مداخلته ضمن الجلسة العلمية الأولى على هامش اليوم الدراسي حول "استعمال المكننة في حرف الصناعة التقليدية" المنعقد بقاعة فاس المدينة الجمعة تحت شعار: "المكننة بقطاع الصناعة التقليدية بين التهديد والتجديد… أية آفاق لمستقبل الحرف الأصيلة؟" من التأكيد على أن التفكير في مستقبل الصناعة التقليدية يقتضي الاستعداد المسبق له بوعي علمي واستراتيجي، عبر فهم ما يجري اليوم، ووضع الأقدام على الأرض واستحضار تجارب الدول التي سبقتنا، وتحليل المسارات التي سلكتها، والاتجاهات التي تسير فيها.
وأبرز أن عددا من الدول نجحت في كيفية التعامل مع منتجاتها العريقة، وهو ما يفرض طرح سؤال جوهري هل الآخرون أفضل منا، أم أننا أفضل منهم؟ وكيف يمكن قياس ذلك؟
وفي هذا الإطار، اقترح المتدخل مجموعة من المؤشرات لفهم موقعنا الحقيقي، أولها مؤشر الإنتاجية الذي يطرح سؤال الزمن والجهد الذي يحتاجه كل صانع تقليدي لإنتاج منتوجه وثانيها مؤشر الشغل المرتبط بإشكالية المكننة وتأثيرها على اليد العاملة أما المؤشر الثالث فيتعلق بالتصدير، حيث أشار إلى أن الصادرات بلغت ما بين 40 و100 مليون درهم، خصوصا نحو السوقين الأمريكية والأوروبية، معتبرا ذلك مؤشرا إيجابيا لكنه غير كافٍ مقارنة بالإمكانات المتاحة.
وتوقف عبدلاوي عند المتغيرات الجديدة، موضحا أنه إذا تم النظر إلى الصناعة التقليدية ضمن إطار الاقتصاد الإبداعي والثقافي، والاقتصاد الترابي، فإن هذه الأبعاد الثلاثة تشكل جوهر الأهمية الثقافية للصناعة التقليدية ومن هنا يطرح السؤال حول موقع المكننة داخل هذه المنظومة، وهل توجد حلول عملية لإدماجها دون الإضرار بالقطاع كما أشار إلى أن هناك من يرى أن دخول المكننة لا يعني بالضرورة موت الصناعة التقليدية، شريطة التعامل معها بحذر كبير.
وشدد المتدخل على أن هذا المسار يتطلب تنسيقا مؤسساتيا حقيقيا بين كتابة الدولة المكلفة بالصناعة التقليدية ووزارة الثقافة ووزارة السياحة والفاعلين الاقتصاديين، بهدف تحقيق إدخال ذكي ومتوازن للمكننة.
ومن موقعه كاقتصادي، ركّز الأستاذ عبدلاوي على نظرية القيمة المضافة، متسائلا: في أي مرحلة يجب إدخال المكننة؟ واستحضر مثال قطاع الطين في صناعة الزليج، حيث تبدأ العملية باستخراج الطين والعمل عليه باليدين والرجلين وهي مرحلة شاقة ولها تأثيرات صحية خاصة مع استعمال الجير الذي يُعد مضرا واعتبر أن النظرية الاقتصادية للقيمة المضافة تتيح التفكير في إدخال المكننة في هذه المرحلة تحديدا، لأنها صعبة على العامل، دون أن تمس جوهر المهارة اليدوية.
وأضاف أن هناك ثلاث نظريات اقتصادية أساسية يجب استحضارها الأولى نظرية القيمة المضافة، والثانية نظرية الرأسمال اللامادي، والثالثة نظرية التنمية المحلية،
وهي نظريات تسهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي وخلق فرص الشغل شرط ألا تُستعمل المكننة لمنافسة العامل أو إقصائه.
وأشار إلى أن الدول التي سبقتنا قطعت أشواطا كبيرة في اليد العاملة، وأن إدخال المكننة في بعض الحالات أدى إلى الرفع من عدد فرص الشغل بدل تقليصها، شريطة استعمالها بذكاء وانتقائية.

وانتهى المتدخل إلى أن تحديث عمل الصانع التقليدي يجب أن يكون تحديثا انتقاليا، مؤكدا أن المقاربات المعاصرة لحماية التراث الثقافي اللامادي كما أقرتها منظمة اليونسكو سنة 2003، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنة 2013، شددت على أن الانتقائية في إدخال المكننة، وعدم تعميمها، يمكن أن يحقق ثلاث مكاسب في آن واحداقتصادية، اجتماعية، وبيئية.
ودعا الأستاذ عبدلاوي إلى الصرامة الأكاديمية في التعاطي مع هذه الإشكالات، خاصة عندما يتعلق الأمر بالبعد البيئي، مشددا على ضرورة طرح سؤال ماذا سنربح إذا أدخلنا المكننة؟ وماذا سنخسر؟ مؤكدا أن كل ما يتعلق بالمهارة اليدوية الخالصة، بما فيها النقش لا يجب أن يُمكّن.
وانتقل إلى المقارنة الدولية، مشيرا إلى أن دولا مثل إسبانيا تجاوزتنا من حيث التصدير، حيث بلغت صادراتنا ما يقارب 251 مليون يورو، مقابل أرقام أكبر بكثير لديهم واعتبر أن التفكير الجيد في إدخال المكننة أتاح لهذه الدول أن تربح أكثر مما خسرت، مستشهدا بحالات إسبانيا وتركيا، حيث يتراوح إنتاج الزليج بين 120 و140 ألف وحدة، في حين لا يتجاوز الإنتاج المغربي ما بين 7000 و8000 وحدة.
وشدد على أن الخوف من الكفاءة مفهوم، لكن ما يتوفر عليه المغرب من مهارات يدوية متراكمة عبر 12 قرنا لا يوجد لدى أي بلد آخر، وأبرز أن كل صانع تقليدي يعاني من إشكالية الإنتاجية حيث يُبذل جهد ووقت كبيران مقابل نتيجة محدودة، في حين أن الدول الأخرى استطاعت تحقيق نتائج أكبر بجهد أقل.
وأوضح أن الإشكال لا يكمن في المهارات التقنية أو في التراث، بل في تنظيم القطاع داخل إطار الاقتصاد الذكي حيث نجحت تلك الدول في دمج الصناعة التقليدية ضمن سلاسل القيم.
وأكد أن الزليج يوجد اليوم في مرحلة انتقالية، إذ لا يزال يُنظر إليه من زاوية رمزية فقط، في حين أن الصناعة التقليدية حتى تكون قابلة للاستمرار يجب أن تتوفر على شروط أساسية من بينها الطلب الدولي والمهارة والحرفية وهو ما يفرض تطوير التسويق وتنظيم الحرفي والانتقال من منطق الحرفة التقليدية إلى منطق مؤطر ومُنظَّم مع ضرورة حماية اسم الزليج وإطلاق مدارس ومعاهد متخصصة، بل وتكوينات في مستوى الماستر والدكتوراه، حتى لا يبقى مجالا تقنيا فقط.
وفي ختام مداخلته، نبه الأستاذ عبدلاوي إلى أن الطبقة المتوسطة في المغرب لا تستهلك الصناعة التقليدية إلا في مناسبات محدودة، مثل اقتناء البراد أو الجلابة في الأعياد معتبرا ذلك إشكالا حقيقيا.
ودعا في هذا الإطار، إلى الإبداع من أجل إدماج هذه الفئة الاجتماعية في استهلاك الصناعة التقليدية وعدم النظر إليها كماض فقط بل كمستقبل يجب بناؤه، مع الحفاظ على الهوية، من أجل ربح الرهان الثقافي والاقتصادي والانفتاح على العالم.
