المرأة في فكر وسلوك خير البرية
نور الدين الطويليع
بقلم : نور الدين الطويليع
"ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" عبارة مدوية لم تصدر من كافرّ، أو ملحد، أو مشرك، بل صاحبتها هي المرأة المؤمنة العفيفة الطاهرة عائشة رضي الله عنها، والمخاطب (بفتح الطاء) لم يكن شخصا عاديا، ولا إنسانا كباقي الناس، بل هو أفضل الخلق محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام الذي لم يبادر إلى صفعها، أو إلى كيلها سوء العذاب، جزاء ما اقترفه لسانها مما يمكن أن يعتبره غيره كفرا براحا، وتجرأ على الذات الإلهية يسقط جميع حقوقها، ويفتح أمامه الباب على مصراعيه ليصول ويجول، ويشن حربه النفسية عليها بكل أريحية، ما دام أن في الإمكان الاتكاء على حكم شرعي في النازلة، والتوسل به، واتخاذه مدية للانقضاض والافتراس، وممارسة أبشع وسائل القمع والتحرش النفسي..، لم ير عليه السلام في هذا الموقف إلا كلاما عابرا في سياق عابر استدعته طبيعة زوجته الأنثوية كامرأة تحب زوجها حبا جما، وتغار عليه أشد ما تكون الغيرة، دون أن ينال ذلك من إيمانها الثابت الراسخ قيد أنملة في الواقع وفي تصوره هو، ولذلك تعامل معها بمنطق "لم تقل، ولم أسمع"، ولم يتردد حين سأله السائل: من أحب الناس إليك؟، أن يقولها صريحة واضحة، وأن ينطق باسم المحبوب، لا بصفة من صفاته، ولا بالتلميح إليه، قائلا: "عائشة"، وحين عقب السائل بأنه يريد الرجال، لا النساء، أجاب ذاكرا اسما لم يبتعد عن دائرتها، نسبه إليها بالإضافة قائلا: "والدها"، في رسالة واضحة أراد من خلالها إخبار السائل باتصال المودة بينه وبين آل زوجته، بما جعل شجرة حبهما راسخة الجذور، ممتدة الأغصان، محصنة من عدوان العواصف التي قد تأتي من جهة الأقارب الذين تحولوا في عصرنا الحاضر إلى عقارب، يعادون ويهجرون، وتقال في حقهم الكلمات الجارحة والأوصاف القبيحة، ولا يكون ساعي بريدها إلا الزوجة المسكينة المغلوبة على أمرها التي تخير بين أمرين أحلاهما مر: إما إرضاء الزوج وعقوق الوالدين، أو العكس، دون أن يكون لها حق التموضع في منطقة وسطى، واتخاذ موقف الحياد من شنآن لا ناقة لها فيه ولا جمل، لأن هكذا موقف يعني طردها من جنة هذا، أو التلظي بنار ذاك.
هذا الموقف المتقدم ينضاف إلى مواقف كثيرة لخير البرية صلى الله عليه وسلم، سواء مع زوجاته، كما حصل حينما كسرت عائشة آنية بها طعام أمام الناس، أهدته إياه إحدى ضرائرها، فلم يزد على تعليق مقتضب "غارت أمكم"، أو مع عامة النساء، كتلك المحاورة الرائعة مع هند زوجة أبي سفيان، عند إعلانها البيعة، وهي التي أكلت من ذي قبل كبد أحب الناس إليه، عمه حمزة رضي الله عنه، بعد استشهاده في معركة أحد، وكلها مواقف تعبر عن تحضره ورقي تفكيره وحداثة نظرته إلى المرأة كإنسان يحتاج إلى اللين ورقة المعاملة وجبر الخاطر، والتخلي عن منطق القصاص منه، واستحضار نفسيته الغاضبة، وما قد ينتج عنها من ردود أفعال، كما تجسد التطبيق العملي لوصيته الخالدة "استوصوا بالنساء خيرا"، وانحيازا إلى فئة الكرماء، ونأيا عن طائفة اللئام الذين صنفهم في خانة ممتهني المرأة، حينما قال: "ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم".
إن البون شاسع والهوة كبيرة بين هكذا مواقف، وبين ما نجده في واقعنا الحاضر من إذلال للمرأة سواء لدى الأمي أو المتعلم، فالأول لا يتردد في النطق بما يعتبره حكما من قبيل " شاوروهن وخالفوهن" و"إذا لم تضرب المرأة من الأحد إلى الأحد فلا أحد"، ويشعر بالحرج إذا ذكرها، فيكفر عن إثمه بكلمة "حاشاك"، والثاني قد يشبعنا نظما جميلا عن هذا الكائن الجميل في مناسبة الاحتفال بعيده العالمي، ويحظى بتصفيق المدعوات الحار عليه، ويتملى بتتويجهن له كبطل، حتى إذا آب إلى منزله خلع سترة الرقة عن فكره، وارتدى لباس الغلظة والصولة، وارتد إلى عصر الجاهلية، فأنزل جام الغضب على من لا يرى فيها إلا النكد، ربما لأنها لم تطه الغذاء جيدا، أو كسرت آنية.
