الكاتب والكتابة
رشيد بن عدي
الكاتب في بداياته، العربي خصوصا، يعيش صراعا وحربا نفسية رهيبة، هذه الحرب قد تكون أحيانا حربا ضارية إن كان ينتمي إلى أن القراءة لا فائدة منها ولا مكسب وطائل من ورائها، ويستطيع المرء أن يعيش سعيدا محيط يفضل الخبز على الكتاب، فالأغلبية يرى . وهنا تبدأ مشكلة الكاتب، فإما أن يختار الكتاب ويتحمل التهميش لم يقرأ، لكنه سيشقى كثيرا إن لم يجد الخبز بدونها ولن يشقى إنومسؤولية اختياره، أو يختار الخبز فينال رضى الأهل والأصدقاء
يعتقد الكاتب أنه بمزاولته الكتابة سيكسب الاحترام الذي يعتقد أنه يليق به، فيزداد غرورا كلما تقدم في العمر. لكن العكس هو ما يحدث في الحقيقة، فسعيه وراء الكلمات، الأفكار، التفاصيل التي يعتقد أن لا أحد يلاحظها سواه، كل هذا يرميه في متاهة قد لا يخرج منها، وبذلك يفقد احترامه دون ان يعي ذلك، فيتحول من كاتب بسيط ساذج الى أناني يكتب عن غيره دون استئذان، يكتب عن أشياء ويصفها بالطريقة التي يعتقد انها مناسبة، فيجرح بذلك مشاعر الآخرين. ففي نهاية المطاف لا أحد يريد حقيقة أن يعرف شعور ذلك الجندي المسكين وهو يقبل جثة صديقه في الحرب العالمية الثانية، بل ولا أحد يقوى على مسح دموعه أو الاقتراب منه في تلك اللحظة، ثم من ذا الذي سيرغب حقا في معرفة تفاصيل ما حدث لتلك الفتاة الأرمينية التي اغتصبها جندي عثماني بعد أن قتل أهلها أمام عينيها بطريقة وحشية، ناهيك عن النظر في عيني طفل سوري خرج للتو من تحت الأنقاض ويديه الصغيرتين لا تزالان تمسكان بدميته الملطخة بالدماء
هذا من جهة، من جهة أخرى والتي لا علاقة لها بما يكتبه الكاتب، فهي تتعلق بنظرة المجتمع إليه، أقصد بالمجتمع أهله وأقربائه، فالكاتب في سعيه وراء الكتب فإنه يحكم على نفسه بالفقر، وكل فقير منبوذ، وما أكثر الكتاب المنبوذين في عالمنا العربي، فالقراءة التي كان يتباهى بها دون وعي منه تخونه فجأة وتتحول على لعنة يصعب التخلص منها، فيصير بذلك ضحية الكلمات المنمقة والمختارة بعناية كتبها من كان يراهم قدوة له في مرحلة ما من حياته البئيسة، لكنه حين يصل الى نقطة ما فإنه يكاد لا يمر عليه يوم دون أن يلعن اليوم الذي بدأ فيه القراءة، فينظر إلى الكتب نظرة العاشق لحبيبته التي خانته وتزوجت غيره، نظرة كلها حقد واشمئزاز لكنه لا يقوى على التخلص منها أو مواجهتها، فيكتفي بالتنهد والابتسام ببلاهة كلما صادف كتابا او مرة بالقرب من المكتبة التي أضاع فيها معظم حياته
ثم إن سمعة الكاتب لم تكن يوما جيدة، فالفرنسيون مثلا يحذرون بناتهم من الزواج من كاتب، لأن هذا الأخير متهم بإعادة تدوير الأحداث، وإعادة إحيائها لتبدوا كأنها وقعت للتو وليست مجرد ذكريات منسية من الماضي البعيد، هذا بالإضافة إلى أن أي شخص يصادق الكاتب فهو يغامر بأن يجد قصة حياته تباع على شكل كتاب يوما ما، ومن المعروف على الكتاب أنه يفضحون كل شيء، الأسرار الكبيرة والصغيرة بالنسبة إليهم مجرد كلمات بسيطة لا تشكل أي خطورة، أذكر هنا ما حدث لبول أوستر بعد نشره كتاب اختراع العزلة، فقد تعرض السيد اوستر لانتقادات لاذعة من قبل بعض أفراد عائلته الذين اكتشفوا أنه كتب عنهم في الكتاب دون استئذانهم
عموما فحياة الكاتب لم ولن تكون يوما سهلة، فهو على عكس الآخرين يحمل هم العالم طوال الوقت، يتحسر لما يحدث في الشرق، ويبكي لما يجري في الغرب، يتألم مع ذلك المتشرد الذي يلوك الخشب خبزا، يساند تلك السيدة التي تطالب بحريتها، ويقف بجانب ذلك الرجل المظلوم، تجده في كل مكان ومع كل شخص، ومستعد دائما ليقدم يد العون، وحتى وإن كان يتطفل على الناس من حين لآخر فإن نيته صافية
الغريب في الأمر أن أغلب الكتاب يعلمون جيدا أن الكتابة ليست مجرد هواية يمارسوها الواحد من حين لآخر، حسب مزاجه وهواه، بل عملا شاقا جدا قد تضيع أغلب فترات حياته من أجلها، ويعلمون أيضا أنهم سيكونون مضطرين لعيش حياتين في حياة واحدة، ومع ذلك فإنهم لا يتوانون في رمي أنفسهم في طريق الكتابة والمجازفة بأشياء كثيرة... وحين تسألهم يجيبون بكل ثقة: ما الحياة إذن دون مجازفة؟
