التخويف.. منهج سياسي

التخويف.. منهج سياسي

سليمان الزوير

بعد الربيع العربي الذي شهد خروج جل الشعوب العربية للتعبير عن رفضها للظلم الاجتماعي التي تنهجه الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، و بعد المآلات التي انتهى إليها الوضع في معظم هذه الدول بفعل مجموعة من العوامل الداخلية و الخارجية؛ ليس المقام هنا للتفصيل فيها، أضحت بعض الأنظمة التي خرجت بأقل الخسائر -و منها النظام المغربي- تنهج سياسة التخويف من مصير بلدان أصبحت مسرحا لصراع ذو أبعاد دولية، تتحكم فيه المصالح الإستراتيجية للقوى العظمى، و تضع شعوبها بشكل مستفز أمام خيارين لا ثالث لهما؛ أنا أو الفوضى، و طبعا و أمام كل هذا الدمار المنقول بالمباشر عبر القنوات الإعلامية بالصوت و الصورة، و صرخات الأطفال و نياح الثكالى و بكاء العجائز، لا يجد المواطن البسيط الخائف و المتوجس من المستقبل المتلبد، و الذي خرج ذات يوم مطالبا بالعدل و الحرية و الكرامة؛ الكثير من الخيارات أمامه، فيختار مضطرا ما دون الفوضى، لكنه و بالرغم من ذلك تجده يبحث تحت ركام الفساد، عن شعلة خافتة يتشبث بها لعلها تكون قبسا يستنار به لتحقيق العدل المنشود و لو من تحت عباءة الاستبداد، فحرصه على الوطن من الفتن بفعل الخطاب التخويفي من مصائر بلدان عربية شقيقة عرفت ربيعا تلاه مباشرة خريف دام عنيف، يجعله يضع يده على قلبه خوفا مما يمكن أن ينتج عن أي تغيير للواقع من آلام، و غير زاهد-في نفس الوقت- بشكل كامل فيما كان ينشده من آمال،

 

و تتشكل الهواجس، و الأفكار المتناقضة في دوافعها و مآلاتها، لتتبلور في الأخير كأسئلة مفترضة تبحث عن مشروعية التنزيل.

 

أليس بإمكان نظام الحكم الشمولي أن يكون عادلا؟

 

أو هل يمكن أن نطمع في نظام شمولي عادل في غياب تداول حقيقي للسلطة، و توزيع عادل للثروة؟

 

الجواب عن هذه الأسئلة يقتضي البحث في طبيعة هذا الحكم و ركائزه و مقوماته، ومدى إمكانية استجابته لشروط الممارسة السياسية العادلة.. إن أهم مرتكز يرتكز عليه الحكم الشمولي هو الاستبداد، و الاستبداد نقيض العدل، فهل يكون المستبد عادلا؟

 

فالحكم المطلق حتى و إن أظهر تمسحه بقيم العدل، و بذل الجهد ليعطي الانطباع بذلك، فطبيعته، و المخرجات التي يعتمد عليها في ممارسة الحكم تكون حاجزا أمام تحقيق هذا المطلب، فالاستبداد الذي هو ركيزة أساسية لهذا النوع من الحكم، هو استفراد بكل شيء؛ استفراد بالسلطة، استفراد بالثروة، و استفراد بالعطاء أيضا.

 

فالسياسة في ظل نظام مطلق هي انتخابات صورية، و أحزاب فاقدة للإرادة، و مؤسسات جوفاء، و سلط متداخلة يغلب عليها اللون الرمادي.

 

و الاقتصاد هو تركيز رأسمالي ريعي، أصحابه ولاؤهم مطلق للنظام القائم، لا تهمهم الموازنات المالية و قوة الاقتصاد الوطني، بقدر ما تهمهم درجة رضى الحاكم، ولي النعمة، الحامي لمصالحهم الإستراتيجية.

 

و الحقوق الاجتماعية تتحول في ظل نظام مماثل إلى عطاء و إحسان، مسجل كملكية خاصة في إسم الحاكم و حوارييه، الاستفادة منه تكون بقدر الانبطاح، بل لا يمكن أن يمارس الإحسان و العطاء، من وضع نفسه خارج إطار الموالاة، أحرى أن يستفيد منه.

 

هذه المرتكزات الثلاث هي الدعائم الأساسية للاستبداد، و تقويضها يعني هدم النظام من أساسه، و بالتالي فهو لا يملك إلا أن يتشبث بها، و إلا فقد مقومات وجوده، فكيف يمارس العدل من جعل الاستبداد قاعدة لحكمه؟!

 

إن ما يعلمه حقيقة كل نظام ديكتاتوري استبدادي، هو أن ممارسة العدل مع الحفاظ على مرتكزات الاستبداد هو أمر مستحيل، فلا يبقى له إلا إدعاء صفة العدل و لبوس الشعارات الجوفاء، و تطعيم كل ما يمنحه الاستمرارية في إطار توازن صعب بين ممارسة الاستبداد و الاسترسال في الادعاء.

 

و ليتحقق له هذا الأمر لابد من توفر شرط أساسي لا غنى عنه؛ هو تنمية هاجس الخوف لدى الشعب: الخوف من السلطة، الخوف من الفقر، الخوف من الحرمان، الخوف من المستقبل..الخ، فإن توفر هذا الشرط في الممارسة الاستبدادية، أصبحت أركان الطغيان قائمة، و أصبح الشعب لا يرى معنى لوجوده إلا في ظل عطف الحاكم، و حماية الحاكم. و أضحى هذا الحاكم لا يرى موجبا لاستمرار استبداده إلا في المزيد من ضخ أسباب الخوف لدى شعبه، و هذا ما يفسر التخويف الممنهج الذي يمارسه النظام المغربي عبر أذرعه الإعلامية و الإدارية من مصير مرتقب مماثل لما صارت إليه دول أخرى طالبت شعوبها بالتغيير، و يعطي الإنطباع الأكيد أن ممارسة التخويف ليس جديدا و لا مبتكرا، إلا في ما يخص تفاصيله و جزئياته، فهو منهج أصيل في ممارسته للحكم منذ عقود خلت. و في هذا الصدد يقول المفكر العربي عبد الرحمان الكواكبي1 في كتابه القيم "طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد":

 

"خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه، لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحق منهم، وخوفهم ناشئ عن جهل، وخوفه عن عجز حقيقي فيه، وخوفهم عن توهم التخاذل فقط".

 

إن العلاقة بين النظام الحاكم و الشعب، لا ينبغي لها أبدا أن تكون علاقة تناظرية، لا بد أن يكون طرف ما له خشية من الطرف الآخر، فعندما يكون الحكم ممثلا في حكومة منتخبة أفرزتها صناديق الاقتراع بكل ديمقراطية و تنافس بين أحزاب لها نفس مساحة التحرك، تضع نصب أعينها مصلحة الناخبين، في إطار برنامج انتخابي واضح المعالم، و أي إخلال بهذا البرنامج في فترة الولاية الانتخابية، هو نقض لتعاقد غير موثق بينها و بين الشعب، سيؤدي حتما إلى عقاب انتخابي من طرف هذا الأخير، تزكيه مؤسسات موازية تقوم بدورها كاملا و مستقلا في المتابعة و المحاسبة، نكون إذاك أمام حكومة تضرب ألف حساب للناخبين، و يكون الشعب مصدر خوف لكل من تصدى للحكم بإسمه إن هو

 

أخل بالتزاماته، و النتيجة في النهاية ستكون هي الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية و المساواة، و هو ما عبر عنه في جملة واحدة الرئيس الأمريكي الأسبق "توماس جيفرسون"2 عندما قال ذات خطاب:

 

"عندما تخشى الحكومة شعبها تلك هي الحرية، و عندما يخشى الشعب حكومته، ذلك هو الطغيان"

 

إن الطرف الذي يحق له أن يخاف هو المتصدي للحكم و ليس الشعب، و هذا هو المقصود من الشطر الأول من مقولة الرئيس الأمريكي الأسبق، و الذي يمكن اعتباره مسألة بديهية متوافق عليها على مستوى الأنظمة التي قطعت أشواطا طويلة في تعزيز ديمقراطيتها الداخلية. و لا يهمنا بطبيعة الحال في هذا المقام السياقات السياسية لكلام الرجل، أو حتى دواعيه و دوافعه، و الظروف السائدة آنذاك في بلد حديث عهد بالاستقلال و الحرية، يسعى جاهدا لتحقيق المساواة الاجتماعية بين أفراد المجتمع و لو في حدوده الدنيا، بحكم ما كان يعرفه المجتمع الأمريكي في فجر استقلاله، من فوارق صارخة على مستوى التفاضل العرقي و الميز العنصري المتفشي، بقدر ما تهمنا أبعاد المقولة على مستوى الأداء السياسي العام.

 

و نقيض النموذج الذي ذكرنا هو عندما يتحكم الاستبداد، و تصبح مؤسسات الدولة تابعة، و السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية مجمعة في يد الحاكم المستبد، فحينها يصبح الخوف أو التخويف منهج الدولة في تعاملها مع أفراد الشعب، مع ما يتلو ذلك من ترسيخ لفلسفة الظلم، و إقرار للحرمان كمسار موازي مساعد للطغيان، أو كما عبر عن ذلك "توماس جيفيرسون" في الشطر الثاني من مقولته : "..وعندما يخشى الشعب حكومته، ذلك هو الطغيان".

 

فالحرمان من حيث كونه سببا مساعدا في تحقيق الخوف الجماعي، و نتيجة حتمية لسياسة التخويف، في نفس الوقت، فهو في عرف الأنظمة الاستبدادية ليس نتيجة لسياسات تنموية فاشلة، و قد نضع أنفسنا خارج إطار فهم حقيقة الاستبداد إن نحن سلمنا بهذا الأمر، بل هو هدف في حد ذاته توضع له الخطط و البرامج لتحقيقه، لأن حرمان الشعب يعني إبقاء استعداده لتقبل الطغيان مقابل إحساس وهمي بالأمان من الخوف الذي كان سببه الطغيان، إنها معادلة صعبة فهمها النظام المغربي مبكرا و طبقها بشكل ماكر.

 

إنه التطبيق الحرفي لفصول كتاب "الأمير" و صاحبه "نيكولو ميكيافيلي"3 الذي أكد على أن الأفضل بالنسبة للحاكم أن يخشاه شعبه من أن يحبوه.

 

 

و من قال إن رواد الحكم الشمولي ليست لهم أفكار، و مفكرون يلهمونهم؟

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة