دور الدولة2: نظرة على التعليم-1

أقلام حرة

21/09/2020 12:34:00

سعيد المودني

دور الدولة2: نظرة على التعليم-1

استمرارا في مقارنة دور الدولة النظري ونظيره العملي هنا في البلدان المتخلفة، غني عن التأكيد أن أكثر وأهم ما يظهر فيه هذا الدور هي القطاعات الحيوية التي تعتبر المؤشر الصادق والدقيق على إخلاص الدولة وجديتها وحرصها على راحة وكرامة ورفاهية مواطنيها، أو استعمالهم كرعايا ومصدر مشروعية السلب والنهب والاستئثار بخيرات البلاد.. وغني عن الإشارة أيضا أن أهم قطاع حيوي هو ذلك الذي يربي ويوجه المواطن الفرد، بصفته السبب الحصري لوجود الدولة، وهما قطاعيْ التعليم والإعلام..

 

وقد فطنت الدول المحترمة بذلك، بل وتيقنت أن أهم مورد في الصناعات الثقيلة، وأهم بنية تحتية للإقلاع الاقتصادي، وأهم عامل من عوامل التقدم والرقي والازدهار، ليس هو المعادن النفيسة ومصادر الطاقة، ولا المعطيات الطبيعية الملائمة للنشاط الفلاحي، ولا الثروات السمكية، ولا المؤهلات السياحية، ولا الموقع الاستراتيجي المساعد على التجارة، ذلك أن من البلدان من يملك الكثير من هذه الإمكانات، ولا زال يرقد في أدغال التخلف، ومنها من لا يملك منها إلا النزر اليسير، وقد ارتقى عاليا في مدارج التقدم وسلالم الازدهار، حين سلّم أن عامل التطور الأساسي هو الإنسان، وعليه اتجه لتكوين وإصلاح وتوجيه الإنسان..

 

ولا يخفى أن هناك شيئين كفيلين بإصلاح أفسد الدهر في هذا الإنسان، الأول آني وهو الإعلام، والآخر آجل وهو التعليم، وهما السبيلان اللذان تراهن عليهما كل الدول المتقدمة، ولم ولن تتنازل عنهما، وتفرض عليهما الطوق والسيطرة، وتصدرهما، وتعمل من خلالهما لفرض التبعية لها على الدول التي لم تستوعب بعد أهميتهما ولم تعطهما حقهما من العناية والرعاية والمراقبة، مع أنهما الأخطر على الشعوب، بحيث إذا صلحا صلحت، وإلا فلا..

 

إنها البنيات المسؤولة على تربية وتوجيه الناس، والتي تدور حولها الصراعات الحضارية الطاحنة، في الكواليس وأمام الملأ، في الداخل مع الأذناب والعملاء ومنتسبي الطابور الخامس، ومع المتدخلين و"الأوصياء" الأجانب مباشرة..

 

وسنتناول التعليم أولا، ونذكر في أحد الجوانب تلاحم القطاعين في إفراز "نوع خاص من الناس"، ثم نعرج على الإعلام..

 

والتعليم هو مصدر فعل علّم الذي يفيد قيام فاعل بإزالة أو رفع أثر جهل بشيء مادي أو معنوي أو مهاري عن متلق(مفعول به).. وهذه هي الوظيفة الأصلية الأصيلة للتعليم، كانت ولا زالت، وستبقى قارة ثابتة في التاريخ والجغرافيا..

 

لكن تلك الوظيفة لم تعد تستفرد بالقطاع، بحيث أضيفت لها وظائف أخرى أهمها إرساء وتكريس القيم المعتمدة من طرف المجتمع، والعمل على إدماج المواطن في الحياة العملية.. وعليه يكون تقييم أداء ونجاعة نظام تعليمي معين مرتبطا بالنظر إلى الأبعاد أو الوظائف الثلاث، ومقارنة المنتظر النظري منها بالواقع المحقق: نسبة تحقق الأهداف النظرية المسطرة(تقييم داخلي)، ونسبة تمثل القيم المجتمعية، ونسبة اندماج المتخرجين في سوق الشغل(تقييم خارجي)..

 

وعلى عكس المفترض، ولأسباب ظرفية، سنبدأ بالتقييم الخارجي لنظامنا التعليمي، وفيه أيضا نبدأ بفرعه الأول المتعلق الجانب القيمي، بما أنه المكون الأسهل والأسرع في التقييم، ما دام الإجماع قائما على سيادة الفشل الذريع لمنظومتنا التعليمية على المستوى التربوي، وإفلاس منظومتنا القيمية، حيث تجتمع وتتفشى كل مظاهر الفساد الأخلاقي من غش وكذب ونفاق وتكبر وأنانية...

 

إن الصراعات الحضارية السالفة الذكر قد آتت بالفعل أُكلها كما خطط لها الغالبون بحيث أنتج تظافر جهود التنشئة والتوجيه التي تمت عبر المجالين(التعليم والإعلام)، أنتج هذا التظافر أجيالا هجينة مسخة، لا قيمة لها ولا قيم ولا قدوة، ورسخت فيها ذهنيات أبعد ما يكون من أن تكون سليمة..

 

إن الأعداء أول وأكبر ما ركزوا هو على الجانب الفكري، بل العقدي، للمنهاج الدراسي، وفيه سطروا كل أنواع التجهيل والتغريب والتطبيع مع المنكر، وفرضوها على المصالح الوصية على المناهج التعليمية -كما على نظيرتها في الإعلام- كما هو واضح في التغييب الممنهج لمقومات الأمة الحضارية وهويتها التاريخية وخلفيتها المرجعية، حيث تحاول المناهج أن تختزل كل هذه الأبعاد في تقزيم الإسلام وتدجينه وحصره في علاقة روحانية هلامية بين الإنسان وربه، مناطها القيام بطقوس "عباداتية" فردية يقوم بها الإنسان وفقا لكيفيات معنية وداخل أوقات محددة، دون سلطة بشرية ملزمة، ودون أن يكون للدين أي بعد توجيهي أو تنظيمي أو قيادي لأي شأن من شؤون الأمة

 

السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدبلوماسية، في سعي حثيث لتمسيح الإسلام وتنصير تعاليمه و"أكنسة" مضامينه، إلى درجة لم يكد يبقى من عقائد سوى الاعتقاد في الأولياء والأضرحة،، والجري وراء اكتناز الأموال أو تبذيرها!!!..

 

إفلاس الجانب التربوي كمكون خارجي أساسي للنظام التعليمي أسهم في شيوع، بل سيطرة ذهنيات سلبية تخريبية تناحرية كفيلة بتأبيد تخلف الأمة وضمان اندثارها..

 

ذهنية التخريب والنهب خاصة بالنسبة للممتلكات العمومية بكل أنواعها، وعلى اختلاف قيمتها الاستعمالية..

 

ذهنية اللصوصية والانتظارية والتواكل والكسل والخمول: مقاه مملوءة في كل الأوقات والأيام والفصول، المنتزهات والحدائق العمومية التي فلتت لأخطبوط التدمير مملوءة حسب ما يسمح به الجو. الجدران في البوادي مرصفة بالشيوخ والكهول والشباب والأطفال يتحينون فرص ظهور الشمس أو حلول الظل حسب الفصول، وربما استبدلوا بذلك منابع المياه، أو الأشجار، أو ملتقيات الطرق...

 

ذهنية الفوضى وعدم احترام الأسبقية ومركزية الذات على حساب الآخرين، والتكدس الفوضاوي أمام حافلات النقل الحضري وسيارات الأجرة في مواسم الأعياد وغيرها، والقفز على الطوابير...

 

ذهنية الصراع الاستئصالي الأفقي البيني، دون الالتفات إلى الأعلى الجاثم على صدور كل المقهورين المتصارعين..

 

ذهنية الخضوع والخنوع والرضوخ للمساومات ودفع الرشاوى للحصول على الحقوق المشروعة...

 

أما الوجه الثاني لهذه الوظيفة الخارجية للنظام التعليمي، أي إعداد المواطن من أجل إدماجه في سوق العمل، فقد صارت حاليا هي الدور الأول لهذا النظام، واحتلت مكانة التعليم بالمعنى الدقيق للكلمة كما شُرع أول مرة.. لكنه بدوره حصل فيه الفشل على العلامة الكاملة، خاصة وأنه مس قوت الناس، كل الناس، ما دامت الدولة راهنت على تعميم التعليم،، تعميم تعليم البطالة..

 

إن أهم سبب من أسباب البطالة المتفشية هو سوء توجيه التعليم بما يتماشى مع حاجيات سوق الشغل، إذ أن التعليم العام الأكاديمي الذي يكاد يشكل الاختيار الوحيد المتاح في البلاد، هذا النوع من التعليم دأب، ولمدة سنين طويلة، على تكوين دفعات من الحاصلين على الشهادات بمختلف مستوياتها الثانوية والجامعية في شعب نظرية لا تتيح لأصحابها غير إمكانية الاندماج في العمل الوظيفي أو الخدماتي الذي يجب أن توفر الجزء الأكبر من مناصبه الدولة، والتي لن تستطيع إلى ذلك سبيلا، ولو خلصت النيات وتجمعت الإرادات واستجمعت القوات،، فما بالك لو كان الحال مثل الحال!!!..

 

هي سياسة الحمق إذن تلك التي ترهن مستقبل الشعب كله بقطاع مثل قطاع الخدمات الذي يحتل النسبة الأضعف في سوق الشغل في كل بلدان العالم.. إنها سياسة انتحارية تهندس للبطالة، وتكوّن جيوش العاطلين، وتخرّج أفواج المعطلين..

 

وهناك شريحة أخرى من شرائح العاطلين، وهم ضحايا التسرب أو الهدر المدرسي، المتساقطون من أسلاك التمدرس قبل الحصول على الشهادات المعتبرة، دون أن تعمل الدولة على إدماجهم في الحياة الاجتماعية، خاصة وأن التلميذ المنقطع يكون قد وصل سنا يصعب معه تعلم صنعة أو حرفة معينة، كما يصعب معه التأقلم مع الأعمال الفلاحية التقليدية الشاقة بالنسبة للبوادي. ومع غياب رأس المال عند الأب الفقير لتهييء مشروع تجاري، يبقى الضياع هو مصير هذه الفئة!!!..

 

مسؤولية الفشل في هذا المكون(البعد الخارجي للنظام التعليمي) هي سياسية بحتة، وبالدرجة الأولى ما يتعلق بالفشل المرتبط بالانحدار القيمي، ما دام فرض تغيير المناهج الدراسية يتم من طرف أنظمة ومؤسسات خارجية عبر مفاوضات وإملاءات وابتزازات للنظام السياسي القائم، وليس للجانب التقني التدبيري في ذلك موطئ قدم.. وكذلك الشأن -وإن بدرجة أقل نوعا ما- بالنسبة للإخفاق في إدماج المتخرجين في النسيج الاقتصادي، ما دام الخيار العام أكبر من وزارة وصية أو حتى "حكومة" مكلفة.. وعليه تكون إرادة التدارك أسيرة وحصرية عند المربع الأعلى في هرم الدولة.. فالمسؤول السياسي وحده من يملك أن يرفض البرامج التعليمية الدخيلة المفروضة، ويوجه باعتماد برامج أصيلة تحفظ الهوية وتنتج أجيالا صالحة بمعيار القيم التي يؤمن بها المواطنون ويرسخ الاستقلالية في بناء البرامج، كما أنه الوحيد القادر على التغيير الراديكالي لهندسة الاتجاه العام من تعليم خدماتي إلى تكوين عملي..

 

أما في ما يخص مكون الإدماج، فالمطلوب هو الاستعاضة عن هذا التعليم العام النظري الموسوعي اللامتناهي، بتعليم قاعدي مركز في المرحلة الابتدائية(سنعود للموضوع في التقييم الداخلي للنظام التعليمي في المقال المقبل بإذن الله)، يوازيه استئناس في مشاغل تتناسب

 

وسن المتعلم، في أفق حصر هذا التعليم في المراحل الثانوية، وتوسيع قاعدة التعليم المهني التخصصي الذي لا تشكل فيه المعرفة العامة إلا النزر القليل من البرنامج،، طبعا مع الإبقاء على التعليم "الوظيفي/الخدماتي" في الحد الأدنى الذي يستوعبه القطاع، لفئة من التلاميذ، وفق توجيه مبني على نقط الاستحقاق والتعبير عن الميول..

 

 

تعليم تكويني مع توسيع قاعدة الحرف، ومواكبة المتساقطين والمتسربين بإدماجهم في حرف بسيطة تناسب ميولهم واستعداداتهم وكفاءاتهم وملكاتهم وقدراتهم،، فالمجتمع يحتاج الإسكافي والحمال أيضا..

مجموع المشاهدات: 910 |  مشاركة في:
        

عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟