الرئيسية | أقلام حرة | النقل الديداكتيكي...ذلك الركن الغائب

النقل الديداكتيكي...ذلك الركن الغائب

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
النقل الديداكتيكي...ذلك الركن الغائب
 

 

تعتبر المعارف بشتى أنواعها ثمرة جهود العلماء نتيجة البحث والتجريب، فكل أمة تتوفر على رصيد معرفي عال تسعى وراءه كل المجتمعات قصد إكساب أفرادها هذا الرصيد المعرفي، وحتى تصبح المعرفة في متناول الفرد المتعلم،ينبغي إخضاعها للنقل الديداكتيكي، الذي سيحيلها مادة قابلة للتعليم وتعلم، ويمنحهامعنى في الوسط التربوي.ولذلك نجد أن من بين اهم أدوار المدرسين في وطننا العزيز، البحثَ عن معنى ما يدرّسونه لتلاميذهم، مع تبسيط تلك المعاني التي يتلاقاها التلاميذ، فمهما كان البرنامج الدراسي جيدا، ومهما كانت مضامينه ومفاهيمه ملائمة للتلاميذ، وفي متناولهم، فإن هذا كلهغير كاف لمنح تعلمهم معنى.

فاذا أردنا مثلا، أن يصير الطفل مواطنا مسؤولا مستقبلا، فينبغي أن يعرف دور الرياضيات والآداب والتاريخ......، والجدوى منها، بحيث يفهم سبب وجود هذه المواد الدراسية في المدرسة والمجتمع، والفائدة من دراستها .... وهذا ما لا يدركه جل التلاميذ في مدارسنا، إذ لا تمكنهم المدرسة من ذلك، بالإضافة إلىأن هذه الأخيرة تدرس العلوم من دون ربطها بفلسفة العلوم وتاريخها...،وهو الأمر الذي يجعل هذه العلوم غير ذات معنى بالنسبة للتلميذ. وينطبق هذا أيضا على كل المواد الدراسية، بحيث اننا عندما ندرس لغة أجنبية في المدرسة، فإن هذه اللغة ليست غاية في ذاتها، وانما هي وسيلة تحقق مقاصد وغايات، وفي خضم ذلك يظهر دور الأستاذ المبدع الذي يبسط المعرفة في إطار ما يسمى بالنقل الديداكتيكي والذي يرسخ التفكير الإبداعي لدى المتعلم. فالتدريس فن ومهارة لا يحسنه كل من ملك معرفة، وارتقى في مراتب العلم. وبالعودة إلى حياتنا التعلمية في الماضي واذا رجعنا  بالذاكرة إلى الذين مروا أمامنا على سبورات الأقسام ومصطبات التدريس، تبقى صورة ذلك المربي الحنون، المتأدب مع الجميع، الحيي، الذي يسأل عن الغائب، ويبسط المعرفة ليفهما جل التلاميذ، ويكثر من النصائح، ولا يقلق من كثرة الأسئلة، ولايتأخر في تقديم المعلومة الصحيحة، ولا يستحي من إرجاء الأخرى التي فيها شكوظن، إلى الحصص القادمة، ويتابع الأعمال بكل لطف، ويقدر تأخر المحاولين، ويثني على عمل المقبلين......مثل هذه النماذج مازالت راسخة في أذهاننا ولا يمكنها أن تزول. أما التي زالت من الذاكرة، فلأن أصحابها لم يكونوا يملكون مهارة فن التدريس... وكانوا يملأون أوقاتنا بالفراغ المعرفي، والدروس المعقدة، والصراعات الجانبية، والإخراج من القسم لأدنى سبب، والصدامات، لأنهم يعوِّضون الفراغ التربوي بكتل من الصياح، والتهديد... وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعا، لكنهم كانوا يسيئون إلى أنفسهم أولا وإلى المجتمع ثانيا.

وعليه، فأهم مهارة ينبغي أن يمتلكها الأستاذ لجذب اهتمام متعلميه به هي مهارة النقل الديداكتيكي، وهي المهارة الغائبة لدى جل الأساتذة في ممارساتهم الصفية، ولذلك سأتطرق في هذا المقال التربوي إلى جوانب من النقل الديداكتيكي باعتباره عاملا من عوامل إنجاح ممارسة أي أستاذ، وأرجو أن أوفق في طرحي المختصر، وإلا فالحديث يطول، والآراء تتباين، والتجارب أكثر من أن تعد، لكنه جهد المقلة التي ترجو أن تكون فيما طرحته الفائدة للجميع.

استُعمل مفهوم النقل الديداكتيكي أول مرة في علم الاجتماع، وحول بعد ذلك إلى ديداكتيك الرياضيات من قبل (إيف شفلار) ثم استثمر في باقي المواد التعليمية،ويعني مفهوم النقل: تغيير الموقع، أي: التحول من جانب إلى جانب، بمعنى نقل المعرفة من فضائها العلمي الخالص الى فضاء الممارسة التربوية، لتناسب خصوصيات المتعلمين النفسية وتستجيب لحاجاتهم عن طريق تكييفها وفق الوضعيات التعليمية التعلمية.(1)

ويهدف النقل الديداكتيكي أساسا،إلى ما يلي: -تبسيط المعرفة العالمة وجعلها قابلة للتدريس في مستويات مختلفة – جعل المعرفة المدرسية مخالفة للمعرفة العامية وهذا ما يعطيها المصداقية -الاستفادة الإنسانية من المعرفة العالمة -الاستفادة من المحيط الاجتماعي من خلال التوافق والتكيف مع هذا المحيط، بهدف الاستجابة للأغراض التي يطمح لها المشروع المجتمعي – النقل الديداكتيكي ضرورة حتمية لأن المعرفة المدرسية ملزمة بمسايرة التطور العلمي والتكنولوجي الذي تعرفهموضوعات المعرفةبشكل كبير.

ويتم التخطيط لعبور المعرفة من مجال التخصص إلى مجال التعليم كالتالي:موضوع المعرفة ← الموضوع الواجب تعليمه ← موضوع التعليم

موضوع المعرفة: يحيل على بيئتها العلمية الخالصة حيث التجريد والتعقيد والتحول المستمر. إنها معرفة مفتوحة وهي المتداولة من طرف المختصين.

موضوع يتعلق بالمعرفة المغلقة: وهذه المعرفة تستقي مادتها من السياسة التربوية بما تقوم عليها من غايات وأغراض وأهداف تعليمية، ومعنى ذلك أن المعارف المراد تعليمها، محمَّلة بالقيم والاتجاهات التربوية التي تحرص المؤسسة التعليمية على ضرورة تمريرها وتزخر بها البرامجُ والكتب المدرسية.

ويمكن القول إن الموضوع الواجب تعليمه ليس معطى معرفيا خالصا، ولكنه لا يخلو من أبعاد تربوية مرتبطة بالتنشئة الاجتماعية، الأمر الذي يبرر عمليات الانتقاء التي يخضع لها، قبل أن يأخذ مكانه وسط منظومة الثقافة المدرسية، وقبل أن تشرع الأجيال المغربية في تناقله، وفي هذا مظهر من مظاهر اختلاف المعرفة العالمة عن المعرفة المدرسية، ففي الوقت الذي تتميز فيه الأولى بالشساعة والانفتاح والوفاء للأغراض العلمية الصرفة، نجد الثانية محكومة بالانغلاق والانتقاء، خدمة لأهداف مشروع مجتمعي ضمني.(2)

 موضوع التعليم: يتمثل في المعرفة المتداولة بين المدرس والتلاميذ داخل فضاء القسم حيث مضامينها مستوحاة من المعرفة الواجب تعليمها.

وتتميز المعرفة المدرسية في عملية النقل الديداكتيكي بشروط وخصائص نذكر منها ما يلي:

التجرد من السياق الخاص: يعني انفصال المفهوم عن محيطه الابستمولوجي الأصلي الذي سمح بظهوره إلى الوجود (أي لا يتم الاحتفاظ إلا بالسياق الأكثر عمومية).

تجاوز الطابع الشخصي للمعرفة: أي عزل المُنْتَج العلمي عن صاحبه بغرض تجريده عن أي طابع شخصي يمكنه التأثير في صفاء المعرفة العالمة.

القابلية للبرمجة: أي أن تكون المعرفة قابلة لأن تبرمج بشكل يسمح بإكسابها للمتعلم تدريجيا، بمعنى التخطيط لتوالي المحتويات وفق مراحل متدرجة من الصعوبة.

إشهار المعرفة وترويجها: بعد خضوع المعرفة للموضوعية والتجرد من أي طابع شخصي أو ذاتي ممكن، تصبح نصا قابلا للعرض والإشهار في شكل مقاطع تعليمية محددة كما وكيفا بكيفية صريحة.(3)(4)

وأخيرا بعد عرضنا لتعريف النقل الديداكتيكي، وأهم مسارات المعرفة وخصائصها خلال عملية النقل الديداكتيكي وبعض أهدافه، ننتقل إلى أهم محور في هذا الموضوع،والمتمثل في أدوار الناقل الديداكتيكي ومهامه مع التعريج على بعض صعوبات النقل الديداكتيكي التي نأمل من جل الأساتذة تجاوزها. وعموما فالناقل الديداكتيكي هو ذلك الباحث الديداكتيكي الذي ينقل المعرفة من أبراج العلماء ويعالجها حتى تصبح جاهزة قابلة للتدريس، والمدرس الذي ينقلها منه الى المتعلم ويلعب كل منهما دورا معينا كما يلي:

ا-أدوار الباحثالديداكتيكي: -يحدث قطيعة ابستمولوجية بين المعرفة المدرسية والمعرفة العالمة-ينقل المعرفة من المقاربة النظريةالى مستوى المقاربة العملية، لتصبح فيه من جديد موضوعا للبحث والدراسة من عدة زوايا تهم جدتها أو قدمها ومدى ملاءمتها للمحيط المدرسي-يلعب دور الوسيط ذهابا وإيابا بين العالم (أبو المعرفة العالمة) والمدرس (الذي يتولى إيصال المعرفة الى المتعلم)، دون الميل إلى جانب ضمانا لجودة فعل النقل الديداكتيكي.

ب-أدوار المدرس: -دور تقني،ويتمثل في إعادة تنظيم المضمون المعرفي بشكل يلائم خصوصيات مختلف الوضعيات التدريسية التي يواجهها-دور الوسيط بين التلاميذ والمعرفة،وذلك عن طريق تذليل الصعوبات التي يواجهها التلاميذ اثناء عملية اكتسابهم لمضامين معرفية في إطار وضعية تعليمية معينة-دور منفذ، بحيث ينفذ البرامج المسطرة.

ورغم أهمية النقل الديداكتيكي في ممارساتنا الصفية،إلا أن هذه العملية لا تخلو من صعوبات جمة، نذكر منها إحداث

مسببات صعوبات التعلم،وذلكبالتعيين المستمر لموضوعات جديدة للتعلم، فهذا من شأنهألا ينتج عنه إلا تحويل مستمر لصعوبات التعلم، الشيء الذي يجعل التحقيق الفعلي لأهداف التعلم أمرا عسيرا، مثلما أن المساعدة التي تقدمها الجهود الديداكتيكية تبقى محدودة، بفعل الاختلالات المتتالية التي يعرفها النسق الديداكتيكي – شمولية المجالات العلمية المنقولة؛فالمجال المعرفي المراد نقله ديداكتيكيا إلى فضاء الفصول الدراسية، يقوم أساسا على نظريات أكثر شساعة مما هو ظاهر،والنظام الديداكتيكي لا يمكنه أن ينهض على أساس من تلك الشمولية التي تميز المجال الفكري أو العلمي المنقول، على اعتبار أن خصوصية هذا النظام تفرض عليه تقديم المعارف في شكل أجزاء ومباحث ودروس متعاقبة، مثلما تفرض عليه تقطيع تلك المعارف وإخضاعها لتصميم منهجي ينطلق من مدخل تقديمي للمادة، مرورا بغرض مفصل للخطاب، وصولا إلى النموذج أو النسق الفكري المراد تبليغه، فالنموذج العلمي الذي يؤطر المعطيات المعرفية للدرس لا يتم الكشف عنه في البداية، رغم أنه يشكل هدفا تعليميا مقصودا، خدمة لمقاصد التدرج البيداغوجي في التعلم والاكتساب، ولذلك تعتبر عملية تجزيئ النموذج العلمي إلى مجموعة من المفاهيم المفردنة والمستقلة،والتي يأخذ التلاميذ في تعلم تركيبها فيما بعد، عملية ملازمة لكل مشروع ديداكتيكي– عادات التدريس ومقاومة الصرامة العلمية، بحيث يَصْدُرُ المدرسون وواضعوا الكتب المدرسية والبرامج عن تقليد ديداكتيكي يرمي إلى بناء موضوع التعليم بناء متميزا عن الموضوع المعد للتعليم، نظرا لاحتكامهم الدائم الى ما ألفوه من عادات وتقاليد تدريسية،غير أنهم في الوقت نفسه، قلما يلتفتون إلى المسؤولية الابستمولوجية التي تخول لهم خلق وإبداع العادات التدريسية؛ ويظهر ذلك في عدم استجابتهم للملاحظة النقدية التي قد يبديها العالم المتخصص حول موضوع تعليمي بعينه، بدعوى أن تلك الملاحظات لا تصب في صلب المشروع البيداغوجي الذي يشتغلون عليه، والحال أن هذا الموقف ينم عن شعور ما بالذنب إزاء المعرفة العالمة التي تعرضت للانتهاك من طرف شخص غير متخصص.(5)

    ونخلص مما سبق إلى أن النقل الديداكتيكي يعتبر تطاولا على حرمة المعرفة العالمة، كما أن رفض المسؤولين ملاحظاتِ الاكاديميين أثناء وضع البرامج وتنفيذها، يعكس ملامح الهاجس الأخلاقي الذي يشعر به أولئك إزاء المعرفة العالمة، اذ باسم البيداغوجيا والديداكتيك يتم التساهل في أمور معرفية جوهرية، لا تقبل التساهل من وجهة نظر معرفية صرفة،وبما أن مصطلح النقل الديداكتيكي يؤكد على أن المعرفة لا يمكن تبليغها كما هي، فنحن في أمس الحاجة الى البحث عن قواعد جديدة لهذا النقل،  بحيث تكون ملائمة لبنية المعرفة التي يراد إكسابها بكيفية تأخذ بعين الاعتبار عمليات التعلم، كما يجب البحث عن كيفية وضع إمكانات تسمح بالتفاعل على المدى الطويل بين المعرفة العلمية الأكاديمية والتطبيقات الاجتماعية المرجعية والصياغات التصورية التي تكون في متناول المتعلم(6).

 

 

المراجع:

1

ـ بوكرمة اغلال فاطمة الزهراء،النقل الديداكتيكي لعلوم العلماء،مجلة العلوم الإنسانية –جامعة محمد خيضر بسكرةـ العددالتاسع ـمارس 2006 

 

2 ـ Philippe Perrenoud ;La transposition didactique à partir de pratiques: des savoirs aux compétences  Faculté de    psychologie et des sciences de l’éducation Université de Genève1998                                                                              Paru in Revue des sciences de l’éducation (Montréal)، Vol. XXIV، n° 3, 1998، pp. 487-514                                            

3 CHEVALLARD Yves ; la transposition didactique ; Grenoble ; la pensée sauvage paris ; 1985                                    

       Transposition Didactique ;Verret (1975) ; Chevallard (1985, 1991) ; savoirs savants, savoirs enseignés, savoirs sociaux, savoir-faire

4 Emil Paun ;) Directeur du département des sciences de l'éducation( Transposition didactique : un processus de construction du savoir scolaire ; université de Bucarest

5 مجموعة مواقع تربوية مثال...............http://moaalim.blogspot.com/2014/09/didactique-notion-de-base.html

 

6 ASTOLFI Jean pierre ; procédure d’apprentissage en sciences expérimental ; INRP ; Paris ; 1985 

 
مجموع المشاهدات: 3730 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (1 تعليق)

1 | غريب وطن
بين الفهم والممارسة
موضوع مهم وعرض قيم يستحق التنويه. فالتحويل ، التنقيل أو النقل الديداكتيكي كما يصطلح عليه هو وارد وكان محل تكوين بالمراكز التربوية الجهوية سابقا ومازال بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين حاليا ولا شك هو مستحضر عند تخطيط الدرس لدى جل الممارسين لعملية التعليم والتعلم. لكنه يبقى بين جدران هذه المؤسسات وخلفها مجرد لغو وخطاب في نظريات التعلم وديداكتيك المواد ولا يتجسد على أرض الواقع إلا في بعض الدروس النموذجية أو في بعض التجارب النادرة التي يقوم بها البعض من المدرسين الشغوفين بالبحث والتجريب. ذلك أن النقل الديداكتيكي هو ممارسة وفعل باعتماد وسائل ديداكتيكية وتعليمية ملائمة ومناسبة في عملية التدريس. الشيء المفقود في نظامنا التعليمي الذي يفرض الكراسة والكتاب المدرسي كوسيلة ديداكتيكية وحيدة والسبورة والطباشير كوسيلة تعليمية عتيقة من المستحيل التفريط بها رغم تطور العصر ووسائل التعليم. كذلك هي ثقافة الشرح والتوضيح الملتصقة بعملية التعلم عندنا. فعلى الأستاذ أن يمهد ويسائل التلميذ منذ بداية الدرس إلى نهايته ولا يترك للمتعلم فرصة استنتاج ما يدرسه ولا اختيار ما يدرسه ولا كيف سيدرسه. هذا هو الواقع المفروض منذ عقود الذي أفرز المقاومة ضدا على التجديد ويستحيل أن يتغير مع تقاعس الحكومات المتوالية بالعمل الجاد على تطوير منظومة التعليم. بل هم يساهمون في تكريس الفشل وإذكائه بالخطابات عوض الفعل الملموس والمؤثر على الأرض. يجب أن تتغير العقلية من الفهم إلى التفعيل والتجسيد حتى يدرك المتعلمون ما يدرسونه وما جدواه في مستقبلهم.
مقبول مرفوض
0
2015/11/18 - 10:10
المجموع: 1 | عرض: 1 - 1

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة