الرئيسية | أقلام حرة | نكران "نعمة" أم إحساس شديد بالغبن؟

نكران "نعمة" أم إحساس شديد بالغبن؟

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
نكران "نعمة" أم إحساس شديد بالغبن؟
 

خرج رئيس الحكومة سعد الدين العثماني عن صمته، ليقرع المغاربة ويلومهم على نكرانهم وتنكرهم لجميل حكومتهم، قائلا بالحرف: "المغاربة عايشين وسط النعمة وما كيشوفوهاش".

 

تحمل هذه الكلمات تعريضا بالمغاربة من خلال اتهامهم بالجحود، وتأتي في إطار استمرار الجالسين على الكراسي الحكومية في سحل الشعب المغربي، وهي لا تقل عدوانية عن اتهام أخنوش لهذا الشعب ب "قلة الترابي"، وللوقوف على أبعادها ودلالاتها الخفية التي غلفها صاحبها بابتسامة ماكرة، سنرجع إلى المعاجم العربية لنقف على معانيها، ونربطها بالسياق المغربي، وبخطاب حزبه قبل "البعث الحكومي" وبعده.

 

     كلمة "النعمة" تعني الرفاهية وطيب العيش، يقول ابن فارس في مقاييس اللغة: "النون والعين والميم فروعه كثيرة، وعندنا أنها على كثرتها راجعة إلى أصل واحد يدل على تَرَفُّهٍ وطيب عيش وصلاح"، ويقول ابن منظور في لسان العرب: "النعمة: الدعة والمال، وهو ضد البأساء والبؤس"، وفي الآية القرآنية الكريمة: "ونعمة كانوا فيها فاكهين"، أما كلمة عيش فهي أصل صحيح يدل على حياة وبقاء، كما يقول ابن فارس الذي يرى أن الرجل يوصف ب "العائش" إذا كانت حالُهُ حسنة"

 

     تضعنا هذه المعاني أمام صورتين متناقضتين بطلهما شعب مغربي مترف ومُنَعَّم، لكنه جاحد ومنكِر، فالنعمة مصدر يقتضي وجود الفعل أنعم، وقد جاء العثماني بهذه الصيغة، ولم يأت بالفعل، ليجعل زمن نعمة المغاربة ورفاهيتهم مفتوحا، وللغرض نفسه جاء باسم الفاعل "عايشين"، ولم يأت بالفعل (عاش أو يعيش)، لأن صيغة اسم الفاعل تستجيب لرغبة المتحدث في توصيف حال المغاربة وظروف عيشهم "الحسنة"، فلو استعمل صيغة الفعل المضارع "يعيش" فسيكون أمام توصيف صالح لمدة قد تكون وجيزة، وقد تتحول في أي لحظة إلى ضرب من الماضي، هذا بالإضافة إلى أن وزن "فاعل" هنا (عائش) يدل على أن المغربي يقوم بفعل العيش، وأنه فاعل، لا منفعل، مما يعني أن جهة ما تقف وراء "بحبوحته"، وأنه ما تنعم، وما عاش إلا لأن له حكومة تسهر على تدبير شؤونه، وتحرص على أن توفر له كل أساسيات الحياة وكمالياتها حتى.

 

     وتأتي المفارقة من شعب "ما كيشوفش النعمة"، وهو تعبير مجازي يغرق هذا الشعب في السلبية، بعدما أنعم المتحدث على حكومته التي يرأسها بالإيجابية المطلقة، ويتجاوز الإخبار إلى القدح والتنقيص.

 

      لا نملك إلا أن نشاطر السيد رئيس الحكومة رأيه، وأن نعترف، نحن المغاربة بجحودنا، فالحكومة، بارك الله فيها، بذلت كل الجهود لمحاربة الفقر والتهميش والهشاشة، وتوفقت في ذلك إلى حد كبير، فعلى امتداد التراب الوطني لن نصادف فقيرا واحدا، ولن نجد مريضا واحدا يتألم ويشكو من غياب التغطية الصحية، أو من ضعف ذات اليد في علاج مرض مزمن، لأن حكومته تتكفل بكل شيء، ولا تتركه وجها لوجه في مواجهة مباشرة مع مرضه وتبعاته، وجاذبية البلد في عهدها، جعلت أنظار العالَمِ تتجه إلى المغرب، وكل إنسان على وجه البسيطة يتمنى لو أتيحت له فرصة أن يكون مغربيا.

 

        السيد رئيس الحكومة يعرف أن ملايين المغاربة يعيشون تحت حافة الفقر، ويعي جيدا أن فئة عريضة من الشعب تعاني من شتى أشكال الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، لكن النعمة التي وجد فيها نفسه على حين غرة تدفعه دفعا إلى الدفاع عنها، ولو بالكذب والبهتان، فالعائش والمُتَنَعِّمُ هو رئيس الحكومة وإخوانه الذين رقتهم ثقة الناس ورفعتهم مكانا عليا، فانتقلوا من الدراجة إلى السيارة الفارهة، ومن الأجرة البسيطة إلى التعويضات الخيالية، لذلك فهو يدافع عن مكسبه هذا، ولا يعنيه في شيء أن يموت المغاربة أو يعيشون ما دامت الحيلة قد انطلت، وما دام سيل الانتخابات قد أوصل الذات المقهورة إلى فردوس الحكومة الذي لم تكن تحلم بأن تجد ريحه، وكانت، وهي تتلظى بحر جهنم الواقع إلى جانب فئة عريضة من الشعب المغربي، تتهم من هي في موقعهم الآن بالترف والاغتناء غير المشروع، وبالضلوع في الفساد، وبإغماض العين عن معاناة المغاربة من الفقر، وتستعرض عبر قنواتها الإعلامية مآسي المواطنين، وتتحسر على حالهم البئيس، وتقارن بين ما كان عليهم الخلفاء المسلمون من تقشف، وما كانوا يبذلونه من جهود لتوفير الغذاء للمسلمين، ولو على حساب طمأنينتهم وسعادتهم.

 

 

        هي ازدواجية خطاب تاجَرَ أصحابها بالدين، ووجدوا تجارتهم مربحة، فأخذوا الثمن مضاعفا، وباعوا مقابله وَهْمًا كبيرا لشعب تركوه في فقره عاهما، ورموا وراء ظهورهم وصيته: اذكرونا عند ربكم، ربما يتذكرون الوصية، لكن بعد أن يجف الضرع، وحينئذ سيتباكون على حال المواطن المغربي، وسينعون واقعه، ويذرفون الدموع، ويشقون الجيوب، ويلطمون الخدود إظهار لألم فاجعة كاذب، عساه يعيدهم إلى فردوسهم المفقود، وإذ ذاك سيوضع معجم الرثاء في دكة الاحتياط مرة أخرى، في انتظار إرجاعه إلى رقعة الملعب السياسي مع خروج أو تهديد بالإخراج من الفردوس الحكومي.

مجموع المشاهدات: 412 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة