ابراهيم أقنسوس
ابراهيم أقنسوس
فن الغناء إبداع راق ، يخاطب فينا أشواق الحق ، والخير ، والجمال ، ويدعو أذواقنا إلى
قضاء لحظات رحيمة ، نهدهد فيها قيم الروح ، ونغذي فيها تجاويفنا العميقة ، لنخرج بعدها
وقد ازددنا عافية ، وارتوينا محبة ، وتجددت منا الفضيلة . هدا هو المنتظر ، وهدا هو
المطلوب ، وهده هي الغاية ، من طلب الترنم بلحن عذب ، وكلمة راقية ، وأداء رفيع .
يدخل علماؤنا الإنصات إلى فن الغناء ، ضمن المباحات التي يجوز أن يطلبها الإنسان ،
بحثا عن حقه في إراحة بدنه ، وسريرته ، وتحقيقا لحاجته إلى التأمل في نفسه ، وفي
العالم ، مما يمكنه من استعادة توازنه ، وتجديد نشاطه ، وحشد عزيمته ، لمواجهة الحياة
بمجرياتها ، وخطوبها المتلاحقة .
إن فن الغناء ليس دغدغة للمشاعر بلا معنى يطلب ، ولا غاية ترجى ، وليس أي كلام يقال ،
ولا أي لحن يرسل ، ولا أي أداء يلقى في آذان الناس ، وعلى مسامعهم . أعمال العقلاء
منزهة عن العبث ، وعن الابتذال ، وعن الإسفاف ، وفن الغناء من أعمال العقلاء ، ومن
مشاغل الحكماء ، نظر له الفلاسفة و الأدباء ، ولكن أي غناء ، هده هي القضية ، وهنا مربط
الفرس كما يقال . ليس الغناء تبذيرا للمال والوقت ، مال البلاد والعباد ، ووقت البلاد والعباد،
بلا غايات راقية ترجى وتطلب . إن فن الغناء يأتي لغرض التغني، في سبيل إشباع نهم
الروح لمعانقة المعاني البعيدة ، وملامسة الإيحاءات الراقية ، الغائرة في تجاويف الآدميين
و الآدميات ، فيتحقق الطرب البديع، ومعه الرقي الجميل . كل هدا الفيض السامق البهي
يتلاشى ويضيع، حينما يأتي الجسد العاري ليختزل فن الغناء في هيكل من لحم ينقصه
الحياء ، كل هدا التشوف و العمق يرتفع ، حين يتحول فن الغناء إلى جسد أنثوي ، أو ذكوري
يتمايل ، ثم يتمايل وكأنه يبحث عن تعويض لما لا يقبل التعويض . انه من الصعب محاورة
المعاني عبر الكلام المغنى ، وانه من الأصعب محادثة الأعماق عبر رسول اللحن البديع ،
والأداء الرفيع ، انه فن الغناء ، حين يكون فنا للغناء ، يطرب الأذواق ، ويأسرها ليرقيها
عاليا ، عاليا ، عاليا .
كم هو قبيح و مؤسف ، أن يختزل كل هدا العمق ، في مجرد جسد عار ، أمام الناس ،
يقول أي شيء ، ويقبل منه أي شيء ، فقط ، لأنه جسد قد تعرى . كم هو مؤلم كل هدا
الإسفاف ، في حق فن هو الغناء . نعم للجسد لغة ، ولغة الجسد ثقافة ، والإنسان كائن
قد يعبر بجسده و بحركاته ، أكثر مما يعبر بلسانه ، نعم للجسد لغة ، لغة تتعلم وتصقل ،
وهي ليست سهلة على كل حال ، ليست ظهورا أمام الناس بملابس كاشفة ، أو بلا ملابس،
فقط بلا ملابس . إن فن الغناء هو فن للغناء ، للكلمة الراقية البانية ، وللحن المبدع الجميل،
وللأداء المؤثر والرفيع . يا أهل فن الغناء ، أطربونا و ارقونا ، أطربونا و ارفعونا عاليا ،
عاليا ، حتى نكون أهلا لتاريخ ، وعراقة ، وفنون هدا البلد .
