الرئيسية | أقلام حرة | أو قَالَ مَاتَ فقد كَذَب

أو قَالَ مَاتَ فقد كَذَب

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
أو قَالَ مَاتَ فقد كَذَب
 

منذ استقلال الجزائر عن المارقة من امبراطوريات أوربا، ألا وهي فرنسا، وهي تشهد صراعا خفيا، لطالما كان التعليم ساحته الخلفية، بينما مثّلت الصحافة، والمكتوبة منها بالخصوص صدر المواجهة، وعلى كافة الأصعدة، وتطوّر هذا الأمر ليمس الأجيال الجزائرية المختلفة، بل تمدّد ليصبح إرثا تتداوله الأقلام والألسن على صفحات الجزائر المستقلة حتى يومنا هذا.

 

الصراع الخفي على أرض الجزائر المستقلة هو صراع لسانيات بامتياز، بين الفرنسية "غنيمة النخبة الجزائرية من الحرب، والعربية "التي تمثل الهُوية والانتماء"، وهذا ما قاد الأيديولوجيات إلى الصدام في أكثر من منعرج تاريخي، رغم الفترة القصيرة من عمر الدولة الجزائرية الفتية، بلغ مداه إلى حدّ الاستحمام بالدم فداء للتكوين الثقافي لكل فئة من الجزائريين، ذوي اللسان الفرنسي من جهة، وذوي لسان الضاد من جهة مقابلة.

 

صراع الأيديولوجيات كان مدمّرا بصيغ الألسن، فقد اعتبر ذوي اللسان الفرنسي المعربين من الجزائريين "متخلفين" مستشهدين بما يمرّ به الوطن العربي من أوضاع مأساوية، خاصة بعد ظهور جماعات متطرفة تتخذ من الإسلام مرجعا "بالباطل" من أجل نشر الرعب بين صفوف أعداء العربية والإسلام.

 

في حين أن ذوي اللسان العربي قد اعتبروا الآخرين "عملاء" بالوكالة للمستعمِر القديم "فرنسا"، بحيث يرى الكثير منهم المتحدث باللسان الفرنسي بقايا للكولون على الأرض الجزائرية، ملخصين كل هذا الارث الثقافي في مهمة خفية تُلصق بهم جزافا، ألا وهي: البكاء على الزمن الفرنسي (الجميل).

 

أساس هذا الصراع خلقته المخابر الفرنسية الخبيثة، فقد منعت اللسان العربي في المؤسسات الحكومية والتعليمية أثناء احتلالها للجزائر، وحاربت المساجد وكل ما يمتد للإسلام أو العربية بصلة، وبعد زمن طويل من اتباعها لهذه السياسات الرهيبة، التي تحتل العقل بدل الأرض، نجحت في تكوين "حقد" خفي بين أجيال المجتمع الجزائري على حسب ألسنتهم، بينما فشلت فشلا رهيبا بالمقابل في طرد العربية من ألسن الجزائريين الأحرار.

 

أوّل صورة لهذا الصراع بين العربية-الجزائرية والفرنسية-الجزائرية تجلّى في السجال الذي حدث بين الوطني "فرحات عباس" والمصلح "ابن باديس"، وهناك مقولات للرجليْن في هذا الشأن، لا تزال تحتفظ بمقتضاها المعنوي كمرجعيات استدلال لكلا أتباع الطرفيْن حتى الآن، فالجرح عميق بسبب اعتبار فرنسا الجزائر "مقاطعة فرنسية" بنص دستور

 

باريس بعد الثورة الفرنسية وتأسيس الجمهورية، وبين من اعتبر فرنسا دولة احتلال، احتلّت شعبا مسلما كان موجودا على هذه الأرض منذ زمن بعيد قبل مجيئها، ينطق بالعربية، وله عاداته الإسلامية وثقافته المتميزة الضاربة في القِدَم.

 

عندما نقول صراعا بين الألسن، فإننا نقصد الصراع بين الثقافات، وبما أنّ المدرسة هي المهد الثقافي الأوّل، خاصة الابتدائية منها، فإن الصراع يحتدم بشكل خرافي بين جدرانها، وهذا ما حدث بالفعل بين أسوار المدرسة الجزائرية؛ فلطالما كانت ولا تزال تشهد هذا الصراع، رغم أنّ العربية هي دين الدولة (المدرسة)، لكن الفرنسية لا تزال تزاحمها مكانها أيضا، رغم ارتفاع أصوات كثيرة تنادي بتعويضها بالإنجليزية.

 

مع بداية القرن الواحد والعشرين، وجد دعاة الفرنسية-الجزائرية، من كُتَّاب ومثقفين وحتى بعض التربويين حجة موضوعية تدعم انتشار الفرنسية في الجزائر، وهي: تحدث الوسائل الالكترونية باللغات الصادرة عن اللاتينية، والتي تعني في حالة الجزائر: الفرنسية، فالحاسوب يتحدث بها، الهاتف الجوال يتحدث بها وبعض الآلات الرقمية الأخرى أيضا تتحدث بها، مما زاد انتشار الثقافة الفرنسية بين الجيل الجديد، جيل مواقع التواصل الاجتماعي الجزائري.

 

لقد اكتسحت الفرنسية الجزائر بالفعل خلال هذه الفترة، وهذا واقع لا يمكن نكرانه، لكن "دهاة" العربية الجزائرية، خاصة في مجال التربية والتعليم فهموا الدرس جيّدا، وهو: إن كانت الفرنسية لسان الآلات (المادة)، فإن العربية هي الملجأ الروحي (القرآن) للفرد الجزائري، فالطفل قبل أن يشتري هاتفا أو لوحة رقمية، سيصلي ويدعو الله طلبا للرحمة والسكينة، ولهذا وبحركة تكتيكية ذكية، تحول التعليم الابتدائي من التركيز على المعارف والمعلومات، إلى التركيز على القيم والمبادئ، وها نحن نشهد أولى ثمار هذا التعليم المعرب بنكهة جزائرية.

 

منذ أشهر قليلة، شهدت الساحات والميادين على مختلف المدن الجزائرية مظاهرات واحتجاجات عارمة، جعلت العالم يقف مذهولا بسبب الوعي الذي ساد هذه المظاهرات "المليونية"، ليس بسبب الأعداد الغفيرة ومن كافة شرائح المجتمع الجزائري فحسب، وإنّما بسبب المشاهد الحضارية التي سادتها، من الشعارات الهادفة، إلى التنظيم المحكم، إلى الاحترام العام بين المتظاهرين في تعاملهم مع رجال الأمن، وصولا إلى تنظيف الشوارع والساحات بعد مرور الحشود، فعلا رسم الجزائريون مشاهد تعبّر عن تحضّرٍ لم يشاهده العالم حتى في شوارع باريس مع السترات الصفر، لقد أبهر الجزائريون العالم فعلا!

 

جلّ المتظاهرين هم شباب ولدوا في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، شباب لقِّنوا الفرنسية "لغة الآلات" والعربية "لغة القيم والمبادئ"، فكان شبابا ذكيا للغاية،

 

 

استخدم اللغة الأولى للتواصل مع العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة العالم الغربي منه، واستعمل العربية من أجل نشر الوعي بين أبناء الوطن الواحد، والذي صنع منهم رجالا على الميدان، هزموا الاستبداد بقيمهم وأخلاقهم، مؤكدين على أنّ أتباع الروح هم الغالبون بسبب أزليته، والمادة كالجسم مآلها الزوال كأتباعها؛ لهذا شكرا لكِ أيتها المدرسة الجزائرية، ولك منا كلّ الاحترام والتبديل.

مجموع المشاهدات: 873 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة