أنس السبطي
عاد الحديث مؤخرا عن الجهوية الموسعة بشكل مكثف من طرف المغرب الرسمي وعن ضرورتها للنهوض بالبلد وللإسهام في ديمقراطيته وفي تنميته وفي المحافظة على خصوصية مناطقه الثقافية مذكرا بما تتيحه من تضامن وتوازن بين المركز والجهات وتنظيم للاختصاصات بين مختلف الجماعات المحلية والسلطات وباقي المؤسسات.
طبعا هذا الكلام ليس جديدا فقد تم استهلاكه حد التخمة من طرف مسؤولي الدولة ومن طرف وسائل إعلامها والعديد من نخبها "المثقفة"، لكن إعادة تداوله اليوم هو نوع من الدعاية المضادة الموجهة ضد نضالات فئة من المغاربة تدافع عن حقوقها التي انتهكتها تلك الدولة المتعسفة وإشهارها في وجه مناضليها ورقة الجهوية سعيا منها لضرب نضالاتهم ومحاولة إحراجهم بالإيحاء بأنهم يصادمون توجها كان سيسهم في ترقي البلاد، غير أنها باستحضارها لهذا الموضوع ومن حيث لا تدري، لا تحرج إلا نفسها وتسائل شعاراتها وكل وعودها التي تبخرت فجأة بعد سنوات من التسويق ولم تسفر غير مزيد من التردي ومزيد من تعميق جراحات العباد والبلاد.
ملف الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد واحد من أبرز التعبيرات المشوهة لفهم المخزن لمشروع "الجهوية الموسعة"، حيث عمد وبشكل فوقي وبذهنية استعلائية على تقطيع أوصال مختلف مناطق المغرب دون مراعاة للخصوصيات المناطقية والثقافية مع إعادة هيكلة بعض المؤسسات المخزنية على المستوى الجهوي عبر توسيع شبكة المنتفعين فيها وذلك بغية الرفع من مردوديتها في اتجاه مزيد من الضبط والإخضاع للجهات خدمة للمركز بأسوء مما كان عليه الحال من قبل، هذا بالإضافة إلى استغلالها لتمرير أجندات مشبوهة مثلما يقال عن دور مستقبلي للأكاديميات الجهوية للتعليم في اتخاذ حزمة من الإجراءات التي تضرب المدرسة العمومية في الصميم.
ما ترفعه الدولة حاليا من شعارات يماثل ما كانت ترفعه في وقت سابق، فمع كل تجربة نضالية لا بد لها أن تضع خطا أحمرا وهميا تصر على التشبث به وتبرر به تصلب موقفها أمام الفئة المحتجة، تماما مثلما أقسم مسؤولوها بأغلظ الأيمان قبل سنوات ألا توظيف دون تكوين في مواجهتهم للمعطلين، ثم أضافوا على ذلك اشتراطا آخر فوق مطلب التكوين وهو مطلب المباراة والانتقاء في حالة الأساتذة المتدربين، وقبل ذلك قيل للأساتذة المطالبين بالترقية بالشهادة ألا ترقية لهم دون اجتياز المباراة.
الغريب أن تلك الخطوط الحمراء المؤقتة سرعان ما تزول وتنسى بمجرد ما تنتفي الحاجة إليها، ولنتذكر كيف عادت الدولة بعد ذلك إلى التوظيف المباشر ضاربة عرض الحائط كل الاعتبارات والمبررات التي ساقتها لرفضه فيما مضى، والشيء نفسه صنعته مع الترقية بالشهادة التي ألغيت لتصبح المباراة التي كانوا يروجون لها نسيا منسيا.
اليوم يواجه الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد ذات الصلف السلطوي الرافض لتسوية فعلية لملفهم والذي يعتبر أي تنازل من جهته تجاه التنسيقية ضربا لمشروع الجهوية التي تحولت إلى قضية مقدسة لا يجوز الاقتراب منها أو المساس بها، وهذا أمر محير فعلا، فما هذا المشروع الذي يشترط تطبيقه إذلال فئة من المغاربة والذي يخشى على سقوطه إن تمت الاستجابة لمطالبها البسيطة، ولماذا لا يلمس المواطن شيئا من ثماره حين يجد مستشفيات جهته عاجزة عن تأمين علاجه فيضطر لشد الرحال إلى المركز قادما من أقصى الشمال والشرق أو الجنوب في حفلة تعذيب منهكة تضاعف معاناته مع مرضه وقلة حيلته أو حين يجبر على مغادرة مسقط رأسه لاستكمال دراسته بعيدا عن أهله بسبب غياب جامعات ومعاهد في المستوى بمسقط رأسه أو بحثا عن إحدى فرص الشغل الضئيلة في منطقته.
وبأي منطق لا يزال مسؤولو المركز يستفردون بكل مقدرات البلاد بل حتى المناطق ذات الثروات المنجمية لا تستفيد شيئا من مواردها، حيث يمعن المركز في تهميشها وفي غض الطرف عن معاناة أهلها جراء الاستنزاف المستمر لها وما يحدث لساكنة قرى مناجم الفوسفاط والذهب أكبر مثال.
ما يجري للأساتذة المتعاقدين استعباد لا علاقة له بأي قانون أو مبدأ مهما تذرع النظام بحججه الواهية، وإلا لماذا يتم الإصرار على تحويل الجهات إلى سجون للأساتذة وبأحكام مؤبدة، وما يترتب على ذلك من ضرب لاستقرارهم النفسي والاجتماعي، والأسوء من هذا أنه يتعامل مع جهات المغرب كأنها جزر معزولة لا يجمع بينها جامع.
المشكلة لم تكن في الجهوية التي لا يمكن لأي مغربي أن يرفضها لو كانت مشروعا جادا في تخليصهم من مشاكلهم الحقيقية، لكن يبدو أن هذا المشروع لا يختلف عن غيره من الإجراءات السلطوية التي لا يجني منها المغاربة غير الشوك، مهما بشرتهم بالرفاهية وبتحسين ظروفهم المعيشية
