الرئيسية | أقلام حرة | هل يستوي استقلال القضاء مع غياب فصل حقيقي بين السلط؟

هل يستوي استقلال القضاء مع غياب فصل حقيقي بين السلط؟

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
هل يستوي استقلال القضاء مع غياب فصل حقيقي بين السلط؟
 

يخطئ الذين يعتقدون ويقولون، وحتى من المثقفين والسياسيين وليس فقط من العامّة، إن القاضي لا يصدر حكمه في الملفات الجنائية ذات الصبغة السياسية، مثل محاكمة معتقلي حراك الريف، وقبلهم معتقلي سنوات الجمر والرصاص، إلا إذا تلقّى تعليمات من فوق.

 

لماذا هم مخطئون؟ لأنهم، أولا، يظلمون هؤلاء القضاة، ولأنهم، ثانيا، في ألمخزنييكشفون عن جهلهم التام بآليات وأساليب اشتغال النظام المغرب، والذي نقصد به السلطة الحقيقية، أو الدولة العميقة، كما يسميها البعض.

 

لقاضي لاستصدار فهذه السلطة لا تحتاج إلى توجيه تعليمات فوقية إلى ا اتصالالحكم الذي تريده، والتي، بالنظر إلى ما قد تتركه من آثار مادية (هاتفي، مراسلة)، قد تورّطه في مخالفة القانون وخرقه لمبدأ استقلال وحياد القاضي.

 

لماذا لا تحتاج إذن السلطة المخزنية إلى مثل هذا التدخّل في عمل القضاء مثل هذه الملفات الجنائية ذات الدوافع لتوجيهيه حسب مصلحتها، فيالسياسية؟ لأن التعليمات، المفترض، كما هو شائع لدى جزء من العامّة وبعض المثقفين والسياسيين، كما سبقت الإشارة، أن القاضي يتلقّاها من الجهات المتحكّمة، والتي تريد أن يحكم حسب رغبتها، هي تعليمات تأتي ي تعليمات كتابية، تُحرّر في وثيقة رسمية، من تحت وليس من فوق، وهمؤرخة ومسجّلة، وتحمل رقما تسلسليا، والاطلاع عليها متاح لكل من له .علاقة بالدعوى العمومية، مثل المتهم ودفاعه

 

هذه الوثيقة هي محضر البحث التمهيدي الذي يضمّ الأفعال التي يُنسب السياسي على الخصوص، كما الطابعارتكابها إلى المتهم في القضايا ذات في حالة معتقلي حراك الريف وسنوات الجمر والرصاص.

 

فصول القانون الف هذه الأفعال حسب ييتك ىولا يبقى للقاضي الزجري إل وعندما يبارك قاضي النيابة العامة هذه المحاضر، ويزكّيها قاضي ،الجنائيعليها من محاكمات ويصدر التحقيق، ويتبنّاها قاضي الحكم، مع ما يؤسَّس استنادا إليها من أحكام، يكون هؤلاء القضاة قد نفّذوا "تعليمات" السلطة دون أن تكون قد طلبت منهم ذلك، ولا سعت إلى توجيه عملهم أو التأثير عليه.

 

والأهم أن هؤلاء القضاة يكونون قد التزموا بالقانون، كل القانون، ولا ف لن تجد في تعاملهم مع الملف المعني ما ولهذا سو ،شيء غير القانونيخلّ باستقلال القضاء، أو يكشف عن خضوعهم لضغوط جهات تريد التأثير على طريقة معالجتهم للملف المعروض على المحكمة الجنائية.

 

وبالتالي فلا يمكن لومهم أو مؤاخذتهم بسبب الحكم الذي صدر، ما دام أنهم للمساطر القضائية المقرّرة.حاكموا وحكموا طبقا للقانون و

 

فالحكم إذن هو مطابق للقانون حتى لو كان مبنيا على محاضر ملفّقة ي، وهو ما يدخل في سلطاته التي ضلماذا؟ لأن من حق القا ومفبركةوأن يرفض كذلك المحاضر، وحتى عندما يخوّلها له القانون، أن يقبل ها الأحكام.تكون التهم جنائية وليست جنحية، ويؤسس علي

 

كما أنه من حق المتهم، عبر دفاعه، أن يثير خروقات وعيوب تلك المحاضر التي يحاكم استنادا إليها، ويطلب من المحكمة التصريح ببطلانها.

 

ومن حق القاضي كذلك، وهو ما يدخل أيضا في سلطاته التي يمنحها له ي يراه مناسباالقانون، أن يرفض تلك الدفوعات والطلبات، وبالتعليل الذ هكذا يكون الحكم مطابقا للقانون، ويكون القاضي قد أصدره بكل استقلال وحياد، لأنه طبّق القانون وليس شيئا آخر.

 

الحكم للقانون هو ما جعل البعض يقولون، وبحسن نية، إن ومطابقة وهذا ،عقوبة عشرين سنة على معتقلي حراك الريف هي عقوبة مخفّفة

 

صحيح إذا عرفنا أن عقوبة جناية المس بالسلامة الداخلية للدولة هي من ق.ج). فالاستدلال الذي أوصل هؤلاء إلى القول 203الإعدام (الفصل فة هو التالي: حراكيّو الريف ارتكبوا جناية المس بالسلامة بأن العقوبة مخفّالداخلية للدولة، عقوبة هذه الجناية هي الإعدام، حوكموا بعشرين سنة فقط، النتيجة أن هذه العقوبة مخفّفة.

 

إنها نتيجة منطقية تنسجم مع المقدمات التي تؤدّي إليها، مثل النتيجة كل إنسان خالد، إيدير إنسان، النتيجة أن المنطقية لهذا الاستدلال الآخر: إيدير خالد لن يلحقه موت ولا فناء.

 

هي نتيجة منطقية لأنها مطابقة للمقدمات التي تؤدّي إليها رغم أن الواقع فالخلل إذن ليس في النتيجة بل في المقدمة الأولى التي تقرّر أن ،يكذّبهاالإنسان خالد، وهي مقدّمة غير مطابقة للواقع.

 

فالخلل ونفس الشيء في القول إن الحكم بعشرين سنة هو عقوبة مخفّفة ليس في هذا الاستنتاج المنطقي، وإنما في المقدمة الكبرى التي تؤدي إليه، وهي أن هؤلاء المعتقلين ارتكبوا جناية المس بالسلامة الداخلية للدولة.

 

وإنما في المقدمة وكما أن الخطأ في الاستدلال الثاني ليس في الاستنتاج غير المطابقة للواقع، وهي أن كل إنسان خالد، فكذلك الخطأ في الاستدلال الثاني ليس في الاستنتاج المنطقي أن العقوبة مخفّفة، وإنما في المقدمة غير المطابقة للواقع، وهي أن المعتقلين ارتكبوا جناية المس بالسلامة الداخلية للدولة.

 

مرجعها هما محاضر البحث التمهيدي، التي تعامل ومصدر هذه المقدمة و .معها القاضي طبقا للقانون الذي يجيز له اعتمادها أو استبعادها

 

في النهاية نجد أنفسنا أمام أحكام ظالمة أصدرها قاضٍ لم يفعل شيئا أكثر من تطبيقه للقانون.

 

ن فهو لم يتلقّ أية تعليمات فوقية تأمره بأن يصدر تلك الأحكام، لأ التعليمات، إذا جاز أن نتكلم عن تعليمات، فهي تلك المدوّنة في محاضر الشرطة القضائية، كما سبقت الإشارة.

 

فالحكم ظالم لأنه غير مطابق للحقيقة، وهي أن المدان ارتكب حقيقة تلك الأفعال المنسوبة إليه.

 

وهذا هو مأزق استقلال ،ولكنه في نفس الوقت هو حكم مطابق للقانون حقيقية ديمقراطيةالقضاء ومأزق المحاكمة العادلة، عندما لا تكون هناك ولا عدالة حقيقية، نتيجة غياب فصل حقيقي بين السلط.

 

فتصدر أحكام ظالمة على متهمين أبرياء دون أن يكون القاضي قد خضع ه وحياده، ولا أن تكون المحاكمة قد لؤثر على استقلالأي ضغط صريح يخرقت القواعد القانونية الشكلية، أو أخلّت بالإجراءات المسطرية والقضائية.

 

، في استعمال القضاء كسلاح للبطش الديمقراطيةوهنا تنجح الدولة، غير والانتقام ممن ترى فيهم خصومها، متسترة وراء استقلال هذا القضاء، ممارِسة بذلك أسوأ أنواع الاستبداد الذي حذّر منه "مونتسكيو" عندما ليس هناك استبداد أسوأ من ذلك الذي يُمارس باسم القانون وتحت «كتب: ».غطاء العدالة

 

وهذا ما حدث في محاكمات المعتقلين السياسيين في سنوات الجمر .الريف والرصاص، ويتكرر مع محاكمات المعتقلين السياسيين لحراك فالمشكل هنا، في ما يتعلق بالمحاكمات السياسية للريفيين، وهو نفس المشكل الذي كان وراء الظلم الذي عانى منه ضحايا المحاكمات السياسية في سنوات الجمر والرصاص، ليس في القانون والمساطر القضائية، وإنما ي، والتي المشكل في "المقدّمات" التي تسطّرها محاضر البحث التمهيدهي، عندما لا تكون هناك عدالة حقيقية واستقلال حقيقي للقضاء، بمثابة حكم مسبّق على المتهم، وهو الحكم الذي يأتي النطق بالحكم القضائي لتثبيته وتأييده.

 

ففي هذه الملفات السياسية، ذات الغطاء الجنائي، تُنجر محاضر البحث مراقبة شرفية لا غير للقضاء. التمهيدي بتوجيهات سياسية وأمنية، تحت

 

ولقد رأينا كيف أن أحزاب الأغلبية كانت هي أول من وجّه تهمة الانفصال ، عندما اجتمعت 2017ماي 14السياسية إلى نشطاء حراك الريف يوم بطلب من وزير الداخلية وليس بطلب من القضاء ، الذي يمثّل السياسة هم بهذه التهمة في بلاغها المعلوم الأمنية وليس القضائية للدولة، وأدانتطبقا لأمر وزير الداخلية وليس طبقا لأمر قضائي، وذلك قبل حتى اعتقالهم .2017ماي 26الذي لم ينطلق إلا ابتداء من

 

وهذه التهمة السياسية، من طرف أمناء عامين لأحزاب سياسية أعضاء القضائية، هي في جهاز سياسي هو الحكومة، وليسوا قضاة تابعين للسلطة التي ستختلق لها محاضر البحث التمهيدي "المقدّمات" والوقائع التي تدخل في تشكيل أركانها وعناصرها.

 

وبناء على هذه التهمة نفسها، ستُصدر محكمة الدار البيضاء أحكامها على معتقلي حراك الريف، بعد تكييفها إلى جناية المس بالسلامة الداخلية م مع فصول القانون الجنائي، كما سبقت الإشارة. للدولة، حتى تنسج

 

14فهذه الأحكام كانت مقررة إذن منذ صياغة صكّ الاتهام بالانفصال يوم بأمر، ليس من السلطة القضائية، وإنما من وزير الأمن، الذي 2017ماي هو وزير الداخلية، كما ذكرت.

 

الساعة الأخيرة أما الأحكام التي ستنطق بها محكمة الدار البيضاء في، في حق المعتقلين الريفيين، 2018يونيو 26(الحادية عشرة ليلا) من ماي 14فلم تكن إلا تأييدا قضائيا للحكم السياسي الذي سبق أن أدانهم يوم ، كما سبق توضيح ذلك.2017

 

النتيجة أن الأحكام سياسية، والمحاكمة سياسية، ودوافعها سياسية، سياسيون. والمحكومون معتقلون

 

أما القضاء فينحصر دوره، في هذه المحاكمات السياسية، في صبغ ما هو سياسي باللون الجنائي، وذلك بتطبيق فصول القانون، مستعملا لذلك الأصباغ التي توفّرها له محاضر الشرطة القضائية، علما أن هذه المحاضر يْن هي الرابط بين دائما في ما يتعلق بالملفات ذات الدافع والطابع السياسيالشق الجنائي الفرعي، الذي يُكلّف به القضاء، والشق السياسي الأصلي،

 

.الذي تشرف عليه الأجهزة الأمنية هكذا تتحكم هذه الأجهزة الأمنية للمخزن، من خلال محاضر البحث التمهيدي، في المحاكمة ذات الطبيعة السياسية، وتوجّهها نحو التهمة التي تبتغي إلصاقها بالمعتقل السياسي، والعقوبة التي تريد الحكم بها عليه، ودون أن يتلقّى القضاة أية توجيهات صريحة تأمرهم أن يحكموا بهذهالعقوبة ومن أجل هذه التهمة.

 

وفي الأخير يربح المخزن بانتقامه ممن يعتبرهم خصومه، وبحفاظه على ويربح كذلك ،ما يعتبره "هيبة" الدولة، أي قدرتها على التخويف والردعالقضاء بحفاظه على هيبته واستقلاله، لأن القضاة لم يخضعوا لأي ضغط والديمقراطيةأما الخاسر فهو العدل ،أو تأثير، وإنما طبقوا القانون فقط.والحقيقة وهنا تثار طبيعة العلاقة بين الجهاز الأمني والجهاز القضائي في دولة ذات .نزعة أمنية لا تخفى على أحد، مثل المغرب

 

فموظفو الشرطة القضائية، المكلّفون بإجراء البحث التمهيدي، ورغم أنهم راقبة الغرفة الجنحية بمحكمة يعملون تحت سلطة الوكيل العام وممن قانون المسطرة الجنائية)، إلا أن السؤال يُطرح 17الاستئناف (الفصل حول من يتحكّم في الآخر.

 

يعني أن الجهاز الأمني هو الأقوى والمتحكّم، وليس الجهاز القضائي كما .يجب أن تكون عليه العلاقة بين الجهازين، حسب ما ينص عليه القانون ولهذا لا يجدي الاعتراض أن محاضر البحث التمهيدي في الجنايات لا تُلزم من 291القاضي باعتبارها مجرد معلومات، كما يقول القانون (الفصل م.ج)، قد يستأنس بها أو يستبعدها نهائيا، لأن المشكل ليس في غياب ا النصوص القانونية الضامنة للمحاكمة العادلة، وإنما في غياب تطبيقهوإعمالها.

 

، وإلا لكان المغرب مثل الديمقراطيةفكما أن الانتخابات ليست هي لأن الانتخابات مثلما تجري في مملكة الديمقراطيةفي الدانيماركالدانيمارك تجري كذلك في مملكة المغرب، فكذلك القوانين والنصوص التشريعية التي تضمن العدل ليست هي العدل.

 

 

هي طريقة استعمالها الديمقراطيةنتخابات تساهم في وكما أن ما يجعل الا ، فكذلك فإن ما يجعل النصوص الديمقراطيةوتوظيفها من أجل تحقيق القانونية تساهم في إشاعة العدل، هي طريقة استعمالها وتوظيفها من أجل .تحقيق هذا العدل معة النتيجة أن الكلام عن استقلال القضاء، عندما تكون جميع السلط مجتومتمركزة في جهة واحدة، هو كالكلام عن مربّع ذي ثلاث زوايا، أو مثلّث .بثلاثة أضلاع طبعا هذا شيء غير ممكن، منطقيا وواقعيا

مجموع المشاهدات: 455 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة