الرئيسية | أقلام حرة | دور الدولة4: حول التدبير الإداري

دور الدولة4: حول التدبير الإداري

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
دور الدولة4: حول التدبير الإداري
 

نستمر في التعليق على أدوار الدولة المفترضة كما حددنا في المقال الأول من هذه السلسلة. ونصل فيها إلى مجال التدبير الإداري، وهو -كما يدل عليه اسمه- شأن إداري. فهو -قطاعيا- أقرب إلى قطاع التعليم الذي تم التعرض له في المقالات الثلاثة قبل الماضي، غير أنه تم فصله عنه لتسلل الإعلام إلى حقل التعليم ومشاركته إياه في صنع الرأي وتوجيه الإنسان..

والتدبير الإداري هو مخ ومحرك دواليب الدولة كلها ما دام هو ما يتحكم في الإدارات التي يفترض ألا يمارَس نشاط إلا ويكون بالضرورة ضمن صلاحية إحداها، أي الوصية على القطاع المتضمن للنشاط المعني، إذ المفترض في الإدارات أن تغطي كل الأنشطة، في شتى مناحي الحياة..

وللتدبير الإداري أوجه ومستويات، غير أني أقتصر هنا على عموميات ومجملات التدبير الإداري الداخلي، أي عقلية ورؤية رئيس المؤسسة أو الوحدة الإدارية(مؤسسة مستقلة أو منفصلة محليا أو إقليميا أو جهويا أو مركزيا، مصلحة، قسم، مديرية، قطب، قطاع...) للمهمة التي أنيطت به، وتدبيره للوحدة التي يشرف عليها، وعلاقته مع مرؤوسيه... ومدى ملامسة هؤلاء المسؤولين لحس التدبير المقاولاتي العصري السائد في المؤسسات العصرية العالمية، بل وحتى في بعض مقاولات القطاع الخاص في البلاد، لأن هذه الخلية هي نقطة انطلاق التدبير الإداري ككل، بحيث إذا صلحت صلح العمل الإداري في كافة مستوياته، ومنها المستوى القاعدي الذي يهم المرتفق الأدنى الذي من أجل سُنت التنظيم الإداري..

والتركيز على الرئيس هو مقتضى المسؤولية التي فصلنا فيها سبع مقالات،، وهو إنما ترشح وتم اختياره ليطور الوحدة التي أسندت له، ويُسأل عن سيرها ومردوديتها وإنتاج وانضباط وابتكار الموظفين الذين يعملون تحت مسؤوليته فيها..

وقبل التعرض للملاحظات حول هذا التدبير والمؤاخذات والنواقص التي تشوبه، يمكن الالتفات إلى جزئية لا يستهان بها تساهم بدورها في إرباك مشهد الفهم، ألا وهي الكم الفلكي من الجهد والوقت والمال المبذول في المجال، مقابل النتائج أو المردودية العدمية، بل والعكسية أحيانا، وفي أحسن الأحوال الهزيلة، التي يتم تحقيقها: "تسونامي" عمل، "والحالة هي هي"!!!.. وكأن الله قد محق البركة من سعي السعاة، أو كأن القوم يجْرون في "حزام النقل الرياضي"(Tapis roulant)، حيث يقطعون الكيلومترات دون أن يبرحوا مكانهم، أو يستقلون عربة عالقة في الوحل، يدوسون دواسة وقودها إلى النهاية، ويسجل مؤشر السرعة رقما معتبرا، غير أن العربة ماكثة في مكانها، لا تنتج غير الكربون والوحل!!!..

أكيد أن الأمر فيه شيء من كل شيء، قد يبدأ بسوء التوزيع بين المهام والموظفين على المستويات الأفقية أو العمودية أو المجالية أو الجغرافية، وقد لا ينتهي بتقاعس بعض هؤلاء الموظفين. لكن هذا لا يكفي مبررا لتغطية هذه الفداحة، وإنما الخلل ناتج بالأساس عن سوء التدبير الإداري داخل الوحدات الإدارية المختصة، وعدم تبوء رؤسائها -بصفتهم المسؤولين- المكانة اللائقة بهم كقياديين يرومون الإشراف والتأطير والتنسيق والتشجيع والتعزيز والضبط والردع والزجر... وفق منهج قصدي عملي احترافي تطويري محدد الهدف مخطط المراحل، سعيا لتحقيق تدبير جيد يعتمد على التخطيط القبلي، والإنجاز الفعلي، والتتبع البعدي، تحصينا للمكتسبات وتقويما للثغرات واستباقا للتعثرات، وليس ما هو سائد من تيه في الجزئيات وبحث عن تبرير ممارسات أو شرعنة إجراءات، حتى تصبح هي همّ كل مسؤول مهما علت رتبته.. يكون باستحضار النظرة الاستباقية الاستراتيجية الشمولية، بدل التخبط والعشوائية والاندفاعية،، والمخول بتسطير هذا والتوجيه به هو المسؤول الذي يجب عليه أن يضع برامج وخرائط طريق وخطط عمل لمهمته، يحدد فيها الأهداف، ويضع لها مناهج وأسقفا، ويشرك في تصورها وتنفيذها وتحقيقها موظفيه عبر "التوريط" والتحفيز، وأن يشيع ويكرس اقتصاد الجهد والقصد في السعي في مقابل التجويد والإنتاجية والارتقاء، وأن يكون بوقته رشيدا بل شحيحا، ينفقه بتقشف وهمة، ليدخره لعظام الأمور، وليس لسفاسفها التي يمكن أن يقوم بها "مستخدمو الحراسة"، ناهيك عن الأعوان أو الموظفين!!!..

بدل ذلك، تجد المسؤول الإداري عندنا يبذل كل وقته وجهده -دون طائل في ما جُعل له- في الاستقبالات والتبريرات والبحث عن الأجوبة لربح الوقت وامتصاص الغضب، متقمصا أدوارا متناقضة بين تمثيل الإدارة(الدفاع عن القوانين) وتمثيل المواطنين(التعاطف مع الناس

في مواجهة القوانين "المعوقة")، وإدانة موظفي ومسؤولي الوحدات الأدنى الغائبين لخطب ود المرتفق الحاضر، وكأنه مرتزق سياسي يبيع الوهم في حملات علاقات عامة أو حملة انتخابية يتوسل فيها "إقناع" الناس وإرضاء أهوائهم وميولهم ولو بالتخدير، مع أن المنصب لا يفترض فيه أنه سياسي، ولا يجدر به أن يُحسب كذلك، بل هو تقني تنفيذي محض، يتطلب من صاحبه الكثير من العمل والقليل من الكلام، ما دام يزاول عملا شريفا ويعتاش من عرق جبينه، وليس من مهماته الانسياق والإغراق في "تمثيل" دور المحاضر المناظر الذي عليه أن يخصص جلسة مطولة لكل مرتفق لإقناعه بسلامة القوانين وصواب التشريع ببساطة لأنه ليس هو المشرع، ومناط مسؤوليته هو المجال التقني البحت، يحرص على تطبيق القوانين المسطرة كما هي.. فهو ليس عضوا بمحكمة دستورية عليها أن تتفحص دستورية القوانين وانسجامها،، كما أنه ليس مكلفا بمكتب استقبال عليه أن يرشد ويوجه كل مرتفق، وليس طبيبا نفسانيا عليه أن يعالج كل وارد، ولا مساعدا اجتماعيا عليه أن يساعد كل ذي حاجة، ولا مفاوضا في ملف ديبلوماسي عليه أن يناور من أجل تعزيز الموقف التفاوضي، ولا مشرفا على محطة استراحة يسهر على راحة من أَمّها، ولا مؤنسا في رياض مؤانسة الموحشين، ولا متفرغا لتسلية المهمومين، ولا نادلا بمقهى لإيواء العاطلين، ولا معيّنا لتحقيق رغبة من يشتهي القعود جنب أريكة مسؤول... بل هو مسؤول في هيكل إداري يخضع لتراتبية معينة، يمكّن(الهيكلُ) أعضاءه من السهر على تنفيذ القوانين، كل من موقعه..

إن عدم إحاطة المسؤول بقدرات وكفاءات وانشغالات العاملين تحت إمرته، وبمواطن قوتهم وضعفهم، ويسرهم وعسرهم، وخصاصهم وفائضهم... هو في الحقيقة مذمة كبيرة ناتجة عن انعدام التواصل بينه وبينهم، ما ينتج عنه سيادة الشك والتشكيك والتنافر والتوتر والتشنج في العلاقات الأفقية والعمودية، وسوء التوزيع في الملفات والوسائل والأدوات، واهتراء المرافق، والخلل في مساطر الاستفادة من الحقوق... لذا يجب على المسؤول تقعيد التواصل ومأسسته ورسملة مخرجاته، كما تفعل المؤسسات المحترمة حيث تفرض عقد اجتماعات تواصلية دورية أسبوعية أو نصف شهرية أو شهرية على أقل تقدير، لتدارس وتقييم وتقويم وتحيين لوائح المهام والأهداف والخطط والعراقيل والمثبطات... الوظيفية، وكذا لخلق الألفة والجو الملائم المريح للعمل والإنتاج، وإتاحة المساعدة الشخصية الفردية المادية أو المعنوية لمن هو في حاجة إليها، لأنها تعلم أنه دون استقرار نفسي ومادي واجتماعي لا تركيز، ودون تركيز لا مردودية..

 

إن مسؤولينا -موزعي الهاتف، ومحترفي تقنية "Copier/Coller" ولو بين نواذيبو وحميَر- ابتكروا مقاربة عجيبة غريبة في التسيير ضابطها "تدبير رجال المطافئ"، أو "تدبير الأزمة"، أو "تدبير ربع ساعة"، أو "تدبير الله يخرج السربيس على خير"، أو "تدبير أنا ومن بعدي الطوفان"... دون الالتفات لاستمرار المرفق، أو استحضار أدنى شعور بالمسؤولية بشكلها العام الأوسع الأشمل، وأبعادها القيمية!!!.. والحق أن هذه الذهنية "المياومة" التي تعيش اللحظة، والتي أنتجت هذا الترهل في البنيات الإدارية، هي بدورها نتيجة لانفراط عقد التعاقد السياسي الذي يلزم الطرف السياسي المتعاقد معه بإلزام ذاك التقني الذي لا تربطه -عمليا- بالمواطن(بصفته المستفيد من أداء الإدارة) أية رابطة.. وهذا نتيجة حتمية لحالة الاستبداد السياسي وموقوف عليها، لأنه في البلدان "الهجينة" فقط توجد هذه الهوة الساحقة بين "التدبير" السياسي والتدبير التقني، ويؤدي ثمن هذا الشتات مسؤولو البنيات الإدارية إذ يقعون بين مطرقة نزوة السياسيين الارتجالية والمجامِلة للمواطنين، وسندان القوانين الملزمة، فتراهم يتخبطون في أفق التوفيق بين النقائض.. لكن لا عذر لمن تقدم لتحمل المسؤولية اختيارا،، وهو يرى الألغام!!!..

مجموع المشاهدات: 898 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة