الرئيسية | أقلام حرة | مثلجات ساخنة

مثلجات ساخنة

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
مثلجات ساخنة
 

منذ مدة لم أكتب ، ولعل الأسباب متعددة أولها ما قاله لي خالص جلبي ذات يوم : إذا أردت أن تكتب فلابد ان يكون ما تكتبه واضح كفاية حتى يستوعبه القارئ المفترض، والثانية ما يذهب إليه عبد الفتاح كيليطو من أن الكتابة هي ذلك التمرين الذي كنا ننجزه في قاعة الدرس في حصة الإنشاء. لذا قررت أن أنجز واجبا تأخرت عن إنجازه.
عندما كنت صغيرا، و بالضبط في سلك الابتدائي، كنا نأخذ معنا إلى المدرسة قليلا من النقود ( مصروف الجيب) حتى يتسنى لنا شراء بعض ما يعرضه الباعة المتجولون أمام المدرسة. لا نشتري حتى نتجول ونعرف طبيعة المعروضات (فن التسوق) ثم نتخذ قرارنا.
ذات يوم خرجنا وقد كان الجو متقلبا، وبعد قليل انهمر المطر بغزارة ونحن متحلقون حول الباعة نفكر لنتخذ القرار، في الحين نفسه انفض باقي الأطفال عن بائع المثلجات إذ كيف تفكر فيها والجو أصبح باردا وممطرا؟!
فجأة سمعنا بائع المثلجات يصيح : مثلجات ساخنة. وبقيت العبارة تتكرر : " بولو سخون" هرعنا جميعا، أو أغلبنا على الأقل، لشراء البضاعة، لقد كان الطعم مختلفا حقا، إنها مثلجات ساخنة ولا تشبه ما ألفناه. انطلت علينا الحيلة واستجبنا للبروغاندا. غسيل دماغ محكم، لازلت إلى اليوم استمتع بلذة تلك المثلجات، التي تجمع الأضداد وتتسم بالمفارقة.
تحدثت مدرسة فرانكفورت عن صناعة الثقافة، ووضح بيير بورديو كيف يتلاعب التلفزيون بالعقول. وكلما تزايد الجدل حول البرامج التلفزية والاعمال السينمائية، أتذكر أن القصة ربما تكون شبيهة بقصة المثلجات.
لقد كنا حشودا تم التلاعب بها، عقول ساذجة تصدق الإعلانات التجارية التي تختفي وراء الخطاب المقنع والمقنع ( بفتح النون وكسرها). وتستمر الحكاية اليوم، وها قد كبرنا، ونذهب للتسوق وتنطلي الحيلة من جديد. ليس بالضرورة على طريقة بائع المثلجات، ولكن بوسائل جديدة، فنحتفي بالأجساد ونسقط ضحية الاستهلاك المفرط فيما لا نحتاجه. لقد كان سقراط يتجول في السوق متأملا المعروضات ثم ينتهي به الأمر قائلا : كم هي كثيرة الأشياء التي أحتاجها!
صفة مجتمع الاستهلاك تليق بمجتمعنا، وهي ولا شك توصيف دقيق لهذا اللهاث الذي يعترينا اليوم، بل الأدهى من ذلك هو مسارعتنا للتخلص من الأشياء والأشخاص بطريقة سريعة. الروابط اليوم سريعة الزوال، والعمل أيضا لم يعد مغريا لدرجة أن تقضي عمرك كاملا في الإخلاص له : هي مفاوضات فقط، من جهة العامل وطريقة جديدة للتخلص منه  ( العامل) من قبل أرباب العمل. هو زمن السيولة كما يذهب إلى ذلك زيجمونت باومان.
هل نجح التطور الذي احتفت به الانسانية أن يجرد الإنسان عن المعنى؟ هل تمكنت النيوليبرالية من تسليع كل شيء في عالمنا؟
هل دخولنا للعالم الافتراضي افقدنا القدرة على تدبير حياتنا الواقعية؟ أم أن الحدود بين الافتراضي والواقعي أصبحت مسامية ؟
كلنا يفكر، ما في ذلك شك، ولكن التفكير في  التفكير هو جوهر الفلسفة.
هي وقفة تأمل، كان بطلها بائع المثلجات منذ عقود خلت، لعلنا ننتبه إلى صعوبات الفهم والتفكير، وحتى نمنع أطفالنا اليوم من لعبة الغميضى. ما نعيشه اليوم يقتضي فتح عين العقل قبل العين التي نعرف.
شكرا للمثلجات الساخنة التي فسحت لنا مجال التفكير ومكنتني من التواصل معكم بعد طول غياب.
دمتم سالمين، الصيف على الأبواب : استمتعوا بالمثلجات. 

 

 

مجموع المشاهدات: 23976 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (1 تعليق)

1 | محمد لخلايخ
البيضاء
كما عهدتك دوما أيها الباحث السوسيولوجي الرائع. تستفز فضولنا بطريقتك السلسة الرائعة. موفق دوما بإذن الله
مقبول مرفوض
0
2022/06/07 - 10:24
المجموع: 1 | عرض: 1 - 1

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة