الرئيسية | أقلام حرة | ضياع النصيحة بين "ماشي شغلي" و"ماشي شغلك"1

ضياع النصيحة بين "ماشي شغلي" و"ماشي شغلك"1

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
ضياع النصيحة بين "ماشي شغلي" و"ماشي شغلك"1
 

أغلب غالب ما أتعرض له يكون ذا طابع سياسي، وبعضه ذو صبغة عقدة أو فكرية.. ذلك لأن السياسي هو شأن عام من حق أي منتم لمنظومة معينة أن يدلي بدلوه فيها، ما دام يخضع لتدابيرها، وتشمله دواليبها.. أما العقدي فأظن أنه يجب على المعتقِد أن يؤصل عقيدته ولو في الحد الأدنى الضروري، حتى لا يكون تبعا في أمر هو رأس الأمر ومداره.. أما الفكري، فمن حق أي امرئ أن يُعمل فكره، ويتأمل في العوارض، ويقلّبها على كل الوجوه التي يراها، ويستنتج منها ما تجمّع له ووقر في عقله.. وليس التفكر حكرا على أحد من العالمين..

غير هذا، لا أحبذ الخوض في الاجتماعي إلا في القليل النادر جدا، خاصة ما تعلق منه بالوعظ والنصيحة والانتقاد.. من جهة، لأني أبعد ما أكون عن الواعظ الناصح الرشيد،، بل إني للوعظ والنصح والإرشاد أحوج.. ومن جهة أخرى، لأن المجتمع هو مجموع أفراده، والأفراد هم نتاج التربية والتنشئة التي خضعوا لها أمس بإشراف سلطة آنذاك، وبالتالي فتصرفاتهم يحكمها إرث التوجيه في الماضي، من جانب، ومن جانب آخر واقع القيم، وأيضا الضبط، واللذيْن ترعاهما السلط السياسية القائمة، فترفع وتخفض من القيم ما تشاء، وتكيف آليات ضبطها وتوجهها كما تحب.. وبالتالي فإني أرى أن ليس للناس من مسؤولية عن أفعالهم أكثر مما لتلك السلط المتعاقبة في حياتهم.. وعليه، لا يجدر بالناقد الانبراء لتقريع الناس أكثر مما يجب عليه التعريض بمن أساؤوا التنشئة، وقلبوا القيم، وجاروا في الرعاية، فأفسدوا الناس صغارا وكبارا.. فالناس أخوام، يُعجنون ويقولَبون صغارا، ويُضبطون ويؤطَّرون كبارا..

لكن، وفي استثناء للقاعدة، أعرض في هذا "المليْف" موضوعيْن ربما يُنزلان منازل الوعظ، يتعلق الأول منهما باندثار فضيلة، بل واجب التناصح، واختفائه من سلوكيات الناس، وينبّه الثاني للآثام المرتبطة بالنشر، الميسّر اليوم أكثر من شربة ماء..

أما بخصوص غياب التناصح بين الناس، فإضافة إلى عامل الحرص الشديد على كسب ود الناس، والذي سنتعرض له بعده، وإضافة إلى عامل الخوف -المبرر أحيانا- من ردة فعل المتلقي، والتي قد تكون غير مقدور عليها، أو قد يكون، في أحايين كثرة، مجرد جبن وخنوع... لكن، وبالإضافة إلى هذا كله، يبقى أكبر مانع هو أثر تلك العبارتين اللتين وردتا في عنوان المقال: "ماشي شغلي" و"ماشي شغلك"، واللتين تمكنتا من لا شعور الفرد، وسيطرتا على مفاصل التحكم في العقل الباطن لدى المواطنين، فصاروا كلما رأى منهم أحد من أحد تصرفا لا يصح بادر نفسه بـ"ماشي شغلي"، حتى إذا ما شحذ الهمة ورفع التحدي وشذ عن السائد، فوجّه بما يجب، التقفه صاحبه بـ"ماشي شغلك"، وكأن الناس يعيشون في جزر متناثرة لا يؤثر فعل أحدهم على حياة الآخرين،، مع أن فعل أي فرد يؤثر على كل المتسكانين، سلبا أو إيجابا، سواء بأثر مادي مباشر، أو بنقض قيمة ارتضاها الناس، أو بإقحام قيمة منبوذة في المجتمع، أو بإفشاء ما يستتر الناس عند فعله أو قوله، أو بالتطبيع مع المعيب وما يترفع الناس عن فعله ويستنكفون... لذا، يفترض أن لا يجوز لأحد أن يقول "ماشي شغلي"، عند مصادفته لفعل شنيع، ما دام أثر الشناعة مصيبه لا محالة،، ولو بعد حين.. وطبعا واجب المسلم في هذا يكون أأكد، والتزامه يقينا أعظم، بما أنه مسؤول عن مجتمعه ومحيطه..

أما بخصوص عبارة "ماشي شغلك" التي سرعان ما يطفق إليها كل من وجد نفسه مزنوقا بين فعل شائن قام به وناصح واقف عليه، فإن الأصل أنه لا يجدر بالمخاطَب، وبالمسلم من باب أولى، أن يقولها لمخاطبِه، نظرا للمرجعية التي تُلزم الطرفين -نصا- بالتناصح، وأيضا لمِا سبق من أثرِ فعل الفرد على المجتمع.. ثم إن عبارة "ماشي شغلك"، على إطلاقها، هي تعبير عن ضعف الموقف، أو تكبر يصيب الشخصية.. أما المتزن الواثق فإنه يعترف بما يمكن أن يكون قد اقترف من أخطاء، أو يدفع ما قد يكون من اتهامات باطلة، بمنتهى الموضوعية والرزانة، ودون حساسية أو تشنج..

فالتناصح، إذن، يتيح الفرصة إما للاعتراف وتصحيح الخطأ الذي يقع فيه البشر كلهم، وإن اختلف نوع الأخطاء أو عددها، وإما لتوضيح وتفسير وتبرير ما قد يكون سيء فهمه، وإما لنفي ما قد يكون تم افتراؤه أو اختلاقه أو تلفيقه من الأساس.. وعلى كل فالتناصح فيه التماس لضمان سلامة المجتمع، فلا يسقط عمن يجب عليه تقديمه، ولا يحق لمن وُجه إليه أن يرفضه من المبدأ..

ولعل من أكبر موانع تقديم النصيحة وأكثر دوافع الإحجام عنها، نجد، سبقت الإشارة أوله، الحرصَ على نيل رضى الناس، مع أنه، وكما قال أحدهم لأحدهم: "رضا الناس غاية لا تدرك، ورضا الله غاية لا تترك، فاترك ما لا يدرك، وأدرك ما لا يترك".. وعلى كل حال، الأكيد أن الحرص على إرضاء الناس بكل وسيلة، وفي كل الظروف، لن يتحقق،، ولن يتوافق أبدا مع سلامة الموقف، ما دام سلوك الناس لن يكون دائما ملائكيا.. فإما أن ينكر الشخص المنكر فينفض مرتكبوه من حوله، أو يجامله، أو تجاهله على أقل تقدير، ويكون -وإن حاز رضى الناس- قد ضيع واجب النصيحة، وخان وفاء العشرة أو العلاقة.. وقد ورد في الأثر أن أحد الصحابة قال(أو قيل عنه) ما معناه أنه "لم يترك لي(أو له) قول الحق صاحبا".. أما توسل ود الناس عبر التزام قاعدة "خلي كل واحد على خاطرو"، فهو الإفلاس بعينه، وهو ما أفسد المجتمع.. وإذن لا ينفع السعي لاستدرار التعاطف وتملق "الشعبية"(مع أن تلك "الشعبية" كثيرا ما تكون مجرد مجاملة وتصنع ونفاق ظاهري)، على حساب الصدع بالحق، والنصيحة الواجبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...

يتبع..

 

مجموع المشاهدات: 8052 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة