حول النشر

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
حول النشر
 

يعتبر الإعلام أهم وسيلة وأخطرها في ترسيخ القيم، وصناعة الرأي العام والتحكم فيه.. إذ يعتبر الأوْلى والأجدى أكثر من أية وسيلة أخرى، بما فيها التعليم، وذلك لأن رسالته أشمل وأبلغ، ومداه أعم وأوسع، وآلياته أقل تكليفا، وثمراته أقرب قطوفا، مسكا كانت وعسلا، أو نتانة وحنظلا.. وهو، وإن كان يعتمد على الكثير من الوسائل، إلا أن المنشورات والمواقع الإلكترونية تبقى أهم الأذرع وأقواها تأثيرا، وأوسعها انتشارا، في عصر الناس هذا..

وبسبب ذلك لجأت إلى السيطرة عليه كبريات الدول، وشبكات الضغط في العالم، قصد غربلته وتوجيهه والتحكم في صبيبه.. ولأن القوى الحالية لا تؤمن بأية قيمة أخرى غير القيم المادية، ولأن منافسيها يقوّيهم المنطلق الأخلاقي الذي يشكل تهديدا حيا لمصالح تلك القوى،، فقد حرصت على إغمار المشهد بسيل من الرداءة يخيم على كل مفاصله ومستوياته.. وطبعا لا يسْلم من هذا التيار العام الجارف ما يتصل بإعلام الكيانات التابعة..

والمقصود بالنشر أي نشر، سواء تعلق الأمر بالنشاط الفردي الهاوي، كصفحات وحسابات وقنوات الأفراد على مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي المختلفة، أو ما تعلق بالعمل المؤسساتي الاحترافي، التجاري منه أو المدني، كالكتب والمواقع والمجلات والجرائد الورقية منها والإلكترونية..

وإثبات مستوى التدني والرداءة والاختراق المسيطر على تلك الأبواق لن يحظ بالأولوية هنا، لأن إمكانية التحقق منه متاحة متيسرة في عين المواقع الهادرة، متى شاء الراغب.. لذا، فالموضوع هنا متعلق بتأصيل المبادئ وترسيخ المحددات التي تميز الغث من السمين والصالح من الطالح، وبعد ذلك يمكن لأي كان أن يطبقها على المحتوى المتوافر..

وسبق أن تعرضنا لهذا الموضوع من هذا الوجه بإسهاب.. لكنا نعالجه اليوم من زاوية نظر أخرى، تركز على حكم تلك المضامين حتى في "الفقه التقليدي"..

إن من أوّليات الدين أن الصور والمواضيع الفاضحة أو حتى التافهة لا يجدر، أو لا يجوز الخوض فيها ونشرها والمساهمة في التطبيع معها.. بل المطلوب القصد والتعليل عند العزم على نشر أي منشور، والتأصيل الشرعي للبث المزمع إشاعته بين الناس. وهكذا يجب استحضار وطرح الأسئلة القاعدية الواجب طرحها، من قبيل: لماذا القيام بمثل هذا النشر؟ ما هي الفائدة المرجوة منه؟ ما هو الحكم الشرعي؟... وغيرها من الأسئلة البديهية التي يجب أن تحضر في ذهن أي مكلف قبل القيام بأي فعل ينوي الإقدام عليه بصفة عامة، وليس في هذا المجال فقط، لأنه، ومما يعلم من الدين بالضرورة، فإن كل تصرفات العاقل هو مسؤول عنها بتفاصيلها الدقيقة، وبالتالي فلابد أن تحسب إما له أو عليه، ولا حياد في الحكم إطلاقا،، والكل في سجل بمثابة "مذكرة يومية" دقيقة التفاصيل لكل ما تم القيام به،، بل قد تورد حتى بعض ما لم يخرج بعد للأجرأة..

المفترض، إذن، أنه لا عبث في حياة المسلم.. وقمة العبث هي الخسارة المجانية، أو لقاء تحصيل مصلحة ظرفية زهيدة قابلة للإهمال، لكنه يستنزف في سبيلها ماله وجهده دون طائل ذي بال،، مقابل خسارات قد يراكمها.. مع أن الرصانة والحصافة تقتضى المحافظة على المصلحة الأعلى والأكبر والأدوم. ومن المعلوم أن أعلى مراتب المصلحة هي المصلحة الختامية/الدائمة.. فأين المصلحة في نشر التفاهة والرداءة والانحطاط، عبر صور أو فيديوهات أو مواضيع متعلقة بالخلاعة والتهتك والبذاءة، أو مناحي الحياة الشخصية للداعرين في "الفن" أو السياسة أو الشهرة أو الإلهاء،، التي هدفها الوحيد الأوحد هو القضاء على القيم من حيث مبدأ الوجود، والاستعاضة عنها بالدين الجديد: "الموضة"، وما ارتبط بها من انحلال وعري وتفسخ... والتطبيع مع نمط الحياة ذاك، والقيام بإشهار مجاني للشخصيات والمواد والماركات التي تتضمنها المواضيع والصور والمقاطع المنشورة، والبوء بإثم كل من يشاهدها.. بل إن ناشر التفاهة والدناءة والفجور ليحصّل الآثام المترتبة عنها برتم "المتواليات الهندسية"!!!..

أما في الجانب "السياسي"، فإن المرء لا يدرك ما المصلحة، أو حتى الغاية والهدف، من نشر ادعاءات وبطولات "كرطونية" لشرذمة العصابات الحاكمة في ربوع العالم المستضعف، لن يُلتفت إليها؟ اللهم ما كان منها تملقا ومحاباة مجانية لا صدق فيها ولا نفع وراءها.. والطامة تزداد فداحة إذا كان ناشروها أناسا متعلمين، مثقفين، متتبعين، مواكبين، غير مرتزقين، قد كفاهم ربهم ذلة المسألة وإفك النفاق.. فكيف يلبّسون على الناس أمرهم ويساهمون في إعطاء المغتصبين شرعية مزيفة،، مع أنهم في غنى تام عن الإدلاء بشهادة الزور؟؟!!!..

إن قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، وقول الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه: {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ}، يمكن أن يقوم فيهما النشر مقام القول..

بالتبسيط الممل، فإن نشر أية صورة أو مقطع فيديو أو مقطع صوتي أو كلام مكتوب... لا يجوز النظر أو الاستماع إليه أو قراءته... أقول أن هذا النشر بدوره يأخذ حكم ذاك التفاعل الأصلي،، بل أشد، لأن ناشره يتحمل وزر تفاعله هو، وأيضا تفاعل كل من اطلع على ذلك المنشور وتعامل معه، ولو عضد بمناشير خيّرة كثيرة.. وعليه يجب أن يعاد التأمل في مسألة الاختيار المكفول بين المتاح في "السوق الممتاز"، والذي يبرر به الخبثاء مدخلهم: "ها الجامع، ها البار،، وكل واحد يختار شنو بغا"!!!..

إن الإنسان مسؤول عن كل أفعاله المعيبة، بما فيه نشر صور فاضحة أو أخبار تافهة أو متملقة، علما أن السعي وراء المال أو الشهرة أو أي شيء آخر لا يبيح الخطأ ولا يجوّزه ولا يبرره، لأنه في شرعنا الغاية(ولو كانت نبيلة، ناهيك أن تكون "مجرد" مشروعة، فما بالك إذا كانت بذيئة)، الغاية لا تبرر الوسيلة.. بل كلاهما وجب أن يكونا مشروعين، وإلا فهناك أفعال أخرى -غير مشروعة- أقل جهدا، ومردودها المادي أضخم..

 

مجموع المشاهدات: 6003 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة