الرئيسية | أقلام حرة | القراءة، المخيلة، السفر... الخلطة الطفولية للقفز على المعقول!

القراءة، المخيلة، السفر... الخلطة الطفولية للقفز على المعقول!

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
القراءة، المخيلة، السفر... الخلطة الطفولية للقفز على المعقول!
 

أتذكر مطالعتي في طفولتي الأولى، لقصةٍ مترجمة، من قصص الجيب، ذوات الصفحات الصفراء، اللواتي اختزلن روائع الأدب العالمي المترجم، كانت قصتي، سردا مستفيضا يروي فيها طفل متشرد يعيش في فيينا بالنمسا، عن وقائع حياته اليومية، وعن تفاصيل تتراوح بين المعتاد والدراماتيكي الذي يجعل قلب طفل في مثل سني وهشاشتي وجوح مخيلتي يتقافز كفرخ طائر الطنان، سكبها الكاتب العليم في سرد ممتع منساب جعلني أقع في حب المدينة، وأتابع وصف أزقتها وقصورها وحاناتها ومجاريرها وأكشاكها وأنا أحمل في يدي كاميرا ذاكرتي، أحمّل عليها كل شيء، وأحفظ فيها فرادة كل تفصيل.

 

أتذكر جيدا تدوين اسم المدينة والدولة، وبعض الأزقة وأسماء بعض المقاهي والحانات، ودور السنما، في قصاصات ورق خبأتها بإحكام داخل كتبي المدرسية المضجرة، المُعدمة من نصوص بهذا الزخم والسحر. كانت في ذلك الوقت تبدو إمكانية سفري للنمسا ضربا من الخيال المنحرف، الذي خجِلتْ مخيلتي الصغيرة آنذاك حتى من الإقتراب منه، فقد كانت ترزح أسرتي تحت فاقة شديدة، حيث كان مجرد الانضمام لرحلة مدرسية واجب المشاركة فيها لا يتجاوز العشرة دراهم رفاهية لا يمكن بحال الالتفات إليها.

 

لقد كانت القصاصة الورقية إذن، مجرد حفظ لمتعة القراءة الأخاذة عن فيينا، وتحنيطا للذكرى لا أقل ولا أكثر.

 

تمكنتُ، أنا الطفل نفسه، بعد زهاء عشرين سنة خلال الصيف الأخير من تحقيق المعجزة، معجزة الطفل صاحب القصاصة، وقلب فرخ الطنان، الذي كان وعده آنذاك بإمكانية تحقيق حلم الزيارة لفيينا، يعادل بنظره وعدا بإمكان إحياء ميت أو زيارة المريخ، أو إحلال السلام في الأرض.

 

 لقد استمتعت خلال خمسة أيام بكل إنش من المدينة العتيقة، بكل تفصيل ممل، بكل رائحة أو طعم أو همسة، أو شتيمة أو مغازلة، أو ومضة أو جرس إنذار، لقد استدعت الزيارة الذكريات الطفولية حول القصة، وأدركت، متفاجئا، أنني كنت أحمل هذه اللحظة، طوال مراحل حياتي، حتى في الأوقات الحالكة، التي كنت أظن فيها جهلا وغبشا، أنني أبعد شخص في الكون عن هذا المكان الوديع.

 

ترهل مفهوم المستحيل في نظري بعد الزيارة، وتداعت رهبة المعجزة، وأضحت كل فكرة قد ترد على مخيلتي، وهذا ما ينبغي أن يرضعه كل طفل في حليب أمه، أتوماتيكيا ممكنة وقابلة للتطبيق، بما فيها إمكانية زيارتي للمريخ في المستقبل، أن أصبح مالكا لأغلب الأسهم في شركة أمازون، أن أتزوج ابنة عاهل هولندا، أن أصبح غاندي المقبل.

 

الرسالة باقتضاب أن لكل شخص الحق الكامل التام الناجز، في أن يحلم أي حلم لعين يؤرقه، مهما بدا الحلم غريبا ومتطرفا، فلولا غرابة عباس بن فرناس وايديسون في الحلم، ما حلقنا في السماء ولا استضأنا ليلا بضياء، مع ضرورة اتخاذ العمل المكثف الصادق، دافعا نحو الإقتراب من لفظ المستحيل الذي سيظل - كما أردد دوما - عبئا على المعاجم والقواميس.

 

 

مجموع المشاهدات: 13673 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة