المصطفى القرواني
في السنوات الأخيرة، ظهرت بالمغرب أنماط احتجاجية غير مألوفة، تجاوزت المسيرات التقليدية والوقفات الرمزية، لتتخذ أشكالا صادمة، تتراوح بين اعتصام فوق خزانات مائية، وتسلق أعمدة الكهرباء و"الريزو" الشاهقة، وأحيانًا التهديد بحرق الجسد أو الإقدام عليه فعليًا. ظواهر تضع أكثر من علامة استفهام حول واقع الحقوق، وحُدود الصبر، ومنطق الصرخة الأخيرة.
من الشارع إلى الأعمدة والخزانات:
ليست هذه الحالات معزولة أو مجرد ردود فعل لحظية، بل تعكس تحولات عميقة في التعبير عن الألم والغبن. ففي أكثر من منطقة، لم يعد المحتج يكتفي برفع لافتة أو ترديد شعار، بل صار يصعد إلى أعلى خزان مائي، ويعتصم لأيام وسط البرد أو الحر، مهددًا بإلقاء نفسه إن لم تُستجب مطالبه. وفي حالات أخرى، لجأ البعض إلى أعمدة كهرباء التوتر العالي، معرّضين حياتهم للخطر في مشهد مأساوي يعكس شدة الإحباط وفقدان الثقة في المؤسسات.
بين التهويل والتأويل: صرخة أم تهديد؟
تتفاوت القراءات لهذه الأفعال بين من يراها شكلًا من الابتزاز، وبين من يعتبرها آخر وسيلة للفت الانتباه حين تُغلق الأبواب وتُطوى الملفات. فهؤلاء المحتجون، في الغالب، مواطنون بسيطون يعانون من التهميش أو الظلم الإداري أو البطالة المزمنة، ووجدوا أنفسهم محاصَرين بانسداد الأفق، فاختاروا الصدمة طريقًا للبوح.
قد تكون الوسيلة خاطئة، لكنها في كثير من الأحيان تجد صداها لدى الرأي العام، وتحرج السلطات، وتدفعها إلى التحرك، ولو مؤقتًا. غير أن هذا النجاح الظاهري قد يُغري آخرين بالسير على المنوال نفسه، مما يُنذر بتحول الظاهرة إلى "عدوى احتجاجية" خطرة قد تفقد السيطرة وتُسيء للقضايا العادلة ذاتها.
خلفيات اجتماعية ونفسية:
من الناحية النفسية، تشير هذه التصرفات إلى حالة متقدمة من الاحتقان والإحباط الجماعي، حيث يشعر المحتج بأن لا صوت له إلا بالصراخ أو التهديد بإيذاء النفس. إنها رسالة إلى من يهمه الأمر: "لم أعد أملك شيئًا لأخسره".
وإذا كانت المطالب في كثير من الحالات معقولة (شغل، سكن، إنصاف إداري...)، فإن الطرق المستعملة لا تخلو من مخاطرة، وقد تودي بحياة أصحابها وتزيد الأمور تعقيدًا.
مسؤولية مَن؟
ليست المسؤولية حكرًا على السلطات، بل هي مشتركة. فمن جهة، تُظهر هذه الحالات فشل قنوات الوساطة، وغياب الثقة في المجالس المنتخبة والمؤسسات المعنية بتلقي الشكايات. ومن جهة أخرى، تُبرز قصورًا في الوعي الحقوقي، حيث تُختزل المعركة في الخطر والدراما بدل التنظيم والترافع.
هنا يُطرح السؤال الحارق: ما الذي يدفع شابًا أو رب أسرة إلى النوم فوق خزان أو الصعود إلى عمود كهرباء؟ لماذا لم يجد بديلًا سوى المخاطرة بحياته؟
نحو بدائل فعالة:
لا بد من إعادة الاعتبار لمسارات الحوار والوساطة، وتقوية الثقة بين المواطن والدولة، عبر الاستماع الحقيقي، والتفاعل الجاد مع المطالب. كما ينبغي الاستثمار في التكوين القانوني والحقوقي للمواطنين، حتى يُدركوا أن الاحتجاج فعل حضاري يجب أن يبقى في حدود الأمن والسلامة.
الاحتجاج حق مشروع، بل وصمام أمان، لكن حين يتحول إلى وسيلة انتحارية أو دموية، فإنه يفقد معناه، ويُنذر بتراجع خطير في منسوب الأمل داخل المجتمع.
على سبيل الخَتم:
الاحتجاج فوق الأعمدة والخزانات ليس ظاهرة معزولة، بل مرآة لوضع اجتماعي مأزوم، ونظام وساطة مختل، وشعور متزايد بالحكرة. وقد آن الأوان لقراءة هذه الإشارات بعين المسؤولية، بدل الاكتفاء بالملاحقة الأمنية أو التعتيم الإعلامي. فحين يصعد المواطن إلى أعلى نقطة في الحي أو البلدة، فذلك لأنه فقد الأرض التي تقف عليها كرامته.
