الرئيسية | أقلام حرة | الأخبار المتلفزة و«علم الاجتماع»..

الأخبار المتلفزة و«علم الاجتماع»..

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
الأخبار المتلفزة و«علم الاجتماع»..
 



مصطفى المسناوي

بعيدا عن النقاشات المتشنجة والمتشائمة بخصوص مآل الاجتهادات الصحافية عندنا في المجال السمعي البصري، وخاصة منها ما تعلق بنشرات الأخبار في القناتين الأولى والثانية، يمكن القول إن كثيرا من الخطوات الإيجابية قد تحققت على هذا المستوى في العقود الأخيرة، مؤسِّسَةً لمدرسة عزّ نظيرها على صعيد المنطقة والكوكب معا، بل وربما على مستوى الكون بأكمله (بانتظار معرفة المستوى الذي بلغته النشرات الإخبارية التلفزيونية في كل من الزهرة والمريخ).
إن أساتذة الصحافة عبر العالم يحرصون على تعليم طلبتهم كيفية تمييز الخبر عن غير الخبر، قائلين لهم، مثلا، إن الخبر «هو أن يعض الرجل كلبا، وليس أن يعض الكلب رجلا» (لأن الكلاب تعض الرجال دائما، لكن الرجال نادرا ما يعضّون الكلاب، وإن عضّوهم فلسبب قاهر وغير معتاد). لكن الذي يحصل دائما هو أن هؤلاء الطلبة المساكين يجدون صعوبة كبرى، حين يخرجون إلى الحياة العملية، في تمييز الخبر عن غير الخبر خارج حكاية العض هذه، خاصة أن معظم الأخبار ليست فيها كلاب ولا عض ولا يحزنون. وقد ظل الأمر كذلك لزمن طويل إلى أن وضع عباقرة الأخبار المتلفزة عندنا أيديهم على السرّ في معرفة الخبر عن غيره، واستطاعوا في الوقت نفسه، وفي ما يشبه المعجزة، أن يضعوا أيديهم على حقيقة كانت مجهولة حتى ذلك الحين، وهي وجود علاقة وطيدة بين الأخبار التلفزيونية وعلم الاجتماع.
نعم، إن الخبر اليقيني الذي لا خبر سواه هو الخبر عن الاجتماع، وهذا ما كان يجدر بالخليقة كلها أن تعرفه منذ وضع سلفنا ابن خلدون مقدمة «كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر» الذي اعتبر فيه الاجتماع أساس العمران (لا ينبغي الخلط بينه وبين المؤسسة التابعة لوزارة السكنى، رغم أن حقوق التسمية الحالية محفوظة لابن خلدون). لذلك حل أصحاب نشرة الأخبار التلفزيونية عندنا المشكل من أصله، وبدل الحديث المعقد عن الكلب الذي يعض الرجل والرجل الذي يعض الكلب قدموا لنا تعريفا جديدا سيدرّس من الآن فصاعدا في جميع معاهد الصحافة بالعالم: «الخبر هو الاجتماع».
هكذا صارت جرائدنا المتلفزة تبدأ بالأخبار عن الاجتماعات التي تحصل هنا وهناك وتنتهي بها، بما يعني أن كل ما لا اجتماع فيه لا خبر عنه. كما صارت تقدم لنا هذه الاجتماعات بشكل مبتكر وفريد من نوعه، حيث نرى أشخاصا جالسين خلف منصة أو متحلقين حول طاولة وهم يفتحون أفواههم متحدثين بكلام لا نسمعه، رغم أننا نراهم رأي العين، ويعوّضه تعليق الصحافي (الذي نسمعه، يا سبحان الله، دون أن نراه)؛ ثم نرى بعد ذلك أشخاصا محترمين جالسين على الكراسي متابعين كلام الناس المتحدثين وكل منهم يحمل مذكرة أوراق بيضاء وقلما وينهمك في تدوينه (أي الكلام)؛ بما يعني شيئا واحدا لا لبس فيه هو أن أولئك المتحدثين، الذين لا نسمعهم للأسف، يقولون أشياء في منتهى الأهمية، وإلا لما استحقت أقوالهم أن تدوّن على الورق لكي تبقى للتاريخ وللأجيال المقبلة.
وبسبب إدراك المشرفين على جرائدنا المتلفزة لحالة الفضول القصوى التي تثيرها لدينا مشاهدة أناس يقولون شيئا مهما لا نسمعه، فإنهم يأبون إلا أن يكملوا خيرهم الخبري بإسماعنا صوت أحد المتحدثين، في نهاية كل خبر، وهو يعطينا ملخصا عما قاله للعموم؛ ورغم أن الملخص لا يعوض مداخلته (أو مخارجته) كاملة فإنه يبقى أحسن من لا شيء، في نهاية المطاف. كما أنه يجعل منا مواطنين صالحين ومتفهمين لخصوصيتنا التي تجعل مسؤولينا الإداريين، وكلما سألنا عنهم، في حالة اجتماع دائم، لأنه إذا لم يكن هناك اجتماع، فليست هناك أخبار. وبه وجب الإعلام.

 

مجموع المشاهدات: 611 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة