في المسؤولية 2-المسؤولية بين الحاكم والمحكوم-ج2
سعيد المودني
تابع..
في الجزء الأول من هذا المقال الثاني من هذه السلسلة حول مفهوم المسؤولية ومتعلقاته، كان قد تم التعرض لبعض القرائن والحجج التي تدل على أن المسؤولية المؤسساتية وما يترتب عليها من صلاح أو فساد المؤسسة، والدولة كأهم نموذج، هي في رقبة المسؤول، أي الحاكم.. ولأن تلك الحيثيات والأدلة كثيرة يطيل سردها مجتمعة المقالَ، نورد هنا ما تبقى منها:
· عندما يقع مشكل يرى مسؤول أكبرُ في تنظيم إداري معين عجْزَ مسؤول الوحدة الإدارية الأصغر محل المشكل عن حله، فإنه يستبدله هو ولا يستبدل كل الطاقم والقواعد الذين وقع بينهم المشكل(في قطاع الداخلية مثلا،، وتجاوزا، يستبدل القائدُ العونَ، والعاملُ القائدَ، والوالي العامل، والوزير الوالي، وكذا في كل القطاعات...).. بل حتى في اللعب لا تحمّل مسؤولية الفشل لكل اللاعبين، ولا يستبدلون كلهم، بل من يحمّل المسؤولية ويستبدل هو المدرب..؛
· عندما ننتقد صاحب سلوك مشين فإنا نوصّفه -بإجماع- بالعامية أنه "ما مربيش"، وهو نفي بصيغة اسم المفعول، أي أن هذا "الأرعن" لم يمارس عليه الفاعل المفترض فعلَ "التربية".. بمعنى أن أحدهم لم يقم باللازم في تربية "الضنين الماثل"، صاحب السلوك قيد التقييم،، وهذا بشكل تصاعدي..؛
· هب أن الشعب هو من يتحمل المسؤولية.. إذن يجب أن يُقوّم ويصلح ويهذب ويزجر ويعاقب... وكل أفعال التوجيه والإصلاح هي متعدية مبنية للمجهول، أي الفاعل الذي يمتلك الصفة والصلاحية والقدرة والإمكانية ليقوم بذلك بما يتوفر عليه من أدوات الشرعية والوظيفية والتقنية..؛
· رسميا، المسؤولون أنفسهم يحمّلون مسؤولية أي خطأ لمسؤولين آخرين، أو يعترفون هم بالمسؤولية، ويستقيلون عند اللزوم، ولا أحد منهم يجرؤ على تحميلها للقواعد/الشعوب(لا يوجد مسؤول في العالم حمّل مسؤولية التخلف للشعب)،، فكيف بمن يتطوع، من أفراد الشعب، ويبادر ويتصدر لجلد الذات في مازوشية مريبة وعنصرية مقيتة؟؟!!!..؛
· واقعيا، كثير من دول العالم كانت -إلى وقت قريب- غارقة في أوحال التخلف بكل مظاهره(إسبانيا، نمور جنوب شرق آسيا، تركيا...)، حققت طفرات تقد خيالية على المستويين المؤسساتي(البناء الديمقراطي، الاقتصاد، البنية التحتية، التعليم، الصحة...) والشعبي(تربية وتأهيل المورد البشري، تغيير منظومة القيم، الاستثمار في الرأسمال اللامادي...)، وقد تم ذلك بتغيّر القادة وليس بتغيير الشعوب..؛
· عند محاكمة مؤسسات على تجاوزات معينة فإن المحاكمة تطال رئيسها(رئيس الدولة(محاكمة صدام على جرائم حلبجة(...))، قائد الجيش، قائد الشرطة... مع أن أولئك قد لا تجدهم ارتكبوا أية جريمة على مستوى التنفيذ المباشر، فالجنود مثلا هم من يقومون بالقتل المباشر..)..؛
· سلوك الأفراد تحكمه البنية المجتمعية المؤطَّرة بالمنظومات السياسية والقانونية والتربوية والثقافية التي تسود المجتمع محضن السلوك المعني.. وهكذا تجد الأفراد الذين يعيشون في بيئة متخلفة ويسلكون فيها سلوكا متخلفا، يتغير هذا السلوك بنسب كبيرة جدا عندما يغيّرون تلك البيئة إلى أخرى متحضرة يسود فيها القانون ويسري ويطبق على الجميع.. والعكس بالعكس بالنسبة للكثير ممن يعيشون في بيئة متقدمة ويغيرونها إلى أخرى متخلفة أين تشيع سيادة الفوضى والرشوة والمحسوبية والزبونية(المقارنة بين تصرفات المهاجرين في دول المهجر وفي دولهم الأصلية، وكذا سلوكات وجرائم السياح الغربيين في البلدان المتخلفة)..
لماذا يتباين أداء وسلوك الشخص(المهاجر/السائح) حد التناقض بين "بلده" المتخلف/الظالم والبلد المضيف المتقدم/العادل، مع أنه نفس الشخص في الحالتين،، والمتغير فقط بيئة التواجد؟؟!!!..؛
ولا يخفى أن بيئة التواجد هذه مهمة المسؤول إيجادها،، وفرض احترامها قصد التكريس والترسيخ، فإذا لم يفعل، فهو المسؤول عن السلوك الفردي للمنتسبين لمؤسسته..
· أخيرا، وهذه المرة من باب تقييم تدخل الذات في تحديد الموقف، فإن اعتبار ما تميل له النفس أو يشق عليها وكذا تكلفة الموقف المادية والمعنوية من جهة، والأوْلى ورودا إلى الذهن(الشائع) من جهة ثانية، هي مكونات تُعد قرائن إضافية معتبرة في ترجيح "صوابية" أحد الطرحين المتناقضين(مسؤولية الحاكم أو الشعب؟)، ذلك أن النفس ميالة بطبعها للأقل تكلفة، والذهن المقلد(غير الناقد) يتبنى الرائج والمشهور من القول. المعنى أن تبني نظرية مسؤولية الشعب هي أقرب للنفس لأنها لا تترتب عليها كلفة الموقف، ولا تتطلب مجهودا فكريا، والعكس بالعكس..
من جهة أخرى، ارتباطا بالموضوع، وربطا له بأهم ركائز "اللعبة" السياسية ألا وهي الانتخابات، فإن نظرة أصحابنا(الذين يحملون المسؤولية للفرد/الشعب) للمشهد وتشعباته عجيبة حد الغرابة.. ذلك أنهم يتمثلون مفارقة صارخة لا تصدر إلا عن خبل أو تؤدي إليه، حين يجدّون في الدعوة إلى المشاركة لانتخاب "المسؤول"، ويحضون على حسن الاختيار ويشددون على ذلك "نظرا لأهمية وخطورة المنصب والمهمة"، وهذا صحيح،، لكنهم حينما تحدثهم عن مسؤولية "المسؤولين"، يقولون أن الشعب كله مسؤول!!!..
وجه آخر للشطط والزيغ في "توظيف" مفهوم المسؤولية يبرز عندهم بمنطق يكاد يُخرج المخ من جمجمته حينما يصرون على أن الإصلاح ينطلق من الشعب باعتماد ترديد تلك اللازمة العيارية: "كلها يبدا من راسو"،، وكأن الناس ملائكة دون شهوة ولا إرادة، يفعلون ما يؤمرون، أو وكأنهم يخضعون لرقابة ذاتية داخلية مبرمجة قبليا!!!..
إن المسؤولية قائمة بالقوة وبالفعل، وهي مرتبطة لزوما بالفاعل/المحجم الذي يجب تحديده، لأنه عند حصول جريمة تستوجب العقاب، وتخلف الأمة قائم، وهو أكبر جريمة ويستوجب أشد العقاب، فإن الحالات لا محالة تكون إحدى الثلاث:
ü أن ننفي المسؤولية عن الجميع، وهذا هراء لكون لكل فعل فاعل؛
ü أن نوزع المسؤولية على الجميع،، وهذا غير واقعي، ففي المجتمع الغائب والنائم والمسافر والضعيف...، ولا يستقيم أن توزع الاتهامات هكذا جزافا..
والقاسم المشترك بين الحالتين أن العقاب من أجل الإصلاح لن يتحقق في الحالين، في الأولى للنفي، وفي الثانية للاستحالة واقعا أن يعم العقاب الجميع، فمن سينفذه؟؟!!!..؛
ü أما الحالة الثالثة، وهي الواقعية، فهي تحديد المسؤولية بأشخاص معينين. وفي هذه الحال يكون ممكنا إنزال العقاب، ويستقيم المجتمع..
إن المسؤولية المؤسساتية المساءلة شعبيا هي مسؤولية الدولة المنتدبة من طرف الجماعة البشرية، والمفوضة من طرفها، من أجل مراقبة ومحاسبة وإلزام وتقويم ذاك المنجِز الفرد الذي قد تسول له نفسه -كما هي عادة البشر- أن يخل بواجباته.. ولا دور للدولة إن لم تكن وظيفتها ضبط المخالفين وتقويمهم والضرب على أيديهم.. ولو عُلم أن الأنام منضبطون تلقائيا لما شُرعت المراقبة ولا وجدت الدولة أصلا بسلطها التشريعية والقضائية والتنفيذية التي تمكنها من التشريع، والإلزام بذاك التشريع، ومعاقبة غير الملتزمين به..
إن دور الحاكم ومسؤوليته هو محاربة الظواهر المرضية، وليس المراهنة على عفاف الناس وملائكيتهم، فالشعوب هي بمثابة القطيع الذي يشرد في أول استثارة غريزة لديه، والحاكم هم من عليه رده ولجمه..
من جانب آخر، وفي مجال آخر، وفي إطار المحاذير التي تجب مراعاتها في حال تحميل تلك المسؤولية للشعب، فإن التكلفة المعنوية لسوء التقدير المفترضة في الحالين متباينة بما لا يترك أي مجال للمقارنة، إذ في حين يبوء من يتهم شخصا بذنبه، حالة الخطأ، يبوء متهم الشعب بذنب كل أفراده الملايين..
يتبع..
