دور الدولة2: نظرة على التعليم-ج3

دور الدولة2: نظرة على التعليم-ج3

سعيد المودني

تابع..

 

غير أن الأساتذة ليسوا كلهم "ملائكة"، فهم أيضا أبناء بيئتهم، ومنهم من لا يتوانى في إنتاج مشاكل ذاتية يساهم بها في تدني مستوى التعليم وانحطاط قيمة الأستاذ الاجتماعية، حين يلجأ إلى التمرد على هذا الوضع المزري بالتقصير في الواجب والانتقام بشكل تلقائي ولا عقلاني من التلاميذ الأبرياء: تأخرات متكررة وطويلة، خروج قبل الوقت، غيابات، تجمعات "ثرثرية" في الساحات أو داخل الأقسام، إنجاز الوثائق والنماذج وتصحيح إنجازات المتعلمين داخل القسم على حساب الإلقاء... إنه تمظهر عنيف لتذمر وسخط على المكانة الاجتماعية المتردية لمربيي الأجيال!!!..

 

ويساعد على بروز هذا التذمر وتصريفه بهذا الشكل نقص التغطية الإدارية والمراقبة التربوية، بل وسلوك الإداريين والمراقِبين نفس مسلك المراقَبين أيضا.. وأكثر ما يظهر ذلك الخصاص والارتباك في الطاقم الإداري والإشراف التربوي في البوادي، حيث أن كثيرا من المجموعات المدرسية المتواجدة في "الأدغال" غالبا ما تكون عديدة الوحدات مترامية الأطراف، فلا يزور المدير وحداتها إلا بقدر ما تطفو مشاكلها وتمس الخط الأحمر والمنطقة المكهربة، علما أنه قد ينجز تقارير عن زيارات وهمية وأنشطة خيالية قام بها في يوم كذا لمنطقة كذا.. وفي أيام الزيارات الموعودة يطبع كل الوثائق في مختلف التواريخ.. أما المفتش فمن المدارس ما لا يعرف وجوده، إذ من الأساتذة من لا يعرف المفتش إلا من خلال اللقاءات التربوية!!!..

 

في مجال البنية المحتضنة للعملية التعليمية، تجدر الإشارة إلى اهتراء الكثير من أسوار وأبواب ونوافذ الكثير من الحجرات الدراسية، وعدم ربط العديد من الوحدات الدراسية بشبكتي الماء والكهرباء، وغياب المرافق الضرورية والحيوية من البنية المدرسية على رأسها المراحيض للأساتذة وللتلاميذ على حد سواء، وقاعات الاستراحة للأساتذة، والسياج الذي يحفظ المدرسة والتلاميذ، ويمكّن، إلى جانب المراحيض، من تطبيق قواعد الحراسة، ومنزل للحارس يمكّنه- متى يسكن فيه- من مراقبة المدرسة والحفاظ عليها من الخراب الذي يطالها خارج حصص العمل، واتخاذها ملاجئ ومنازل وملاعب وأوكارا... أما الحديث عن سكن للمدرس فسيكون من قبيل الأساطير..

 

إن أغلب غالبية الوحدات المدرسية لا تتوفر لا على حارس ولا على منظف ولا على "طباخ" ولا على مدير،، وعلى الأساتذة تدبير الأمور!!!..

 

في باب الوسائل التعليمية، تُجمع النظريات التربوية على أن استيعاب وإدراك المفهوم المقدم أسهل وأرسخ ما يكون عند استعمال أكبر عدد من حواس المتلقي، ولا يتحقق ذلك إلا باستخدام وسائل إيضاح تجلب أذن المتعلم وعينه ويديه حتى يعتبر العملية لعبا مرحا أكثر منها تلقينا أو تلقيا مرهقا.. غير أن الوسائل التي يجب أن تؤثث المشهد وتنشط الجلسة إما غائبة تماما من المؤسسة، أو محتجزة في رفوف الإدارة!!!..

 

وهناك أسباب أخرى تساهم في هذا التدني لا تدخل في ما سبقت الإشارة إليه، منها ظاهرة اكتظاظ التلاميذ في الأقسام التي تضعف المردودية وتربك المدرسين والمتعلمين على حد سواء، وظاهرة الأقسام المشتركة التي تخرج العملية التعليمية من إطارها...

 

طارئ طرأ على قطاع التعليم، وهو ما يسمى بالتعليم الخصوصي الذي نزل كالبلاء على قطاع حيوي استراتيجي يجب أن يكون بعيدا عن كل صنوف الطبقية وضروب التجارة، صنّف المجتمع وأسال لعاب العديد من الأساتذة الذين يقتصدون في العمومي ليبذلوا الجهد المضاعف في الخصوصي(كما يحصل أيضا في الساعات الإضافية التي يفرضها -بشكل أو بآخر- بعض المدرسين على تلاميذهم)، حتى استحال وسيلة طبقية ومجالا للارتزاق والاستثمار البشع..

 

لرفع المستوى التعليمي، الحل متاح لو أراد له أهل الحل والعقد الانبثاق.. وينطلق من استبدال هذا البرنامج الموسوعي المتيّه الذي يسير في ظله الراكب أياما، تقليصه أو الاستعاضة عنه ببرنامج عملي واقعي يروم تحقيق الكفايات الأساسية الكلاسيكية(في طور التعليم الابتدائي مثلا): القراءة والكتابة والتعبير باللغة العربية، وقراءة وكتابة الأعداد والقيام بالعمليات الحسابية الأربع في الرياضيات، وقراءة وكتابة لغة أجنبية حية ذات انتشار عالمي.. بمعنى الاكتفاء بثلاث وحدات، بل لنقل وحدتين و"نصف": اللغة العربية، والرياضات، ومبادئ

 

قراءة وكتابة لغة أجنبية سائدة في العالم،، وتأجيل استعراض مكونات الشخصية الموسوعية إلى أن ترد مقرونة بميول التلميذ ومجال تخصصه المفترض.. أي اعتماد تعليم قاعدي لمحو الأمية، ثم تخصصي لتفتيق المواهب وصقلها..

 

وفي هذا المجال لنا عبرة ومرجع في البرنامج القديم(سبعينيات القرن الماضي) الذي كان مختزلا أفقيا، أي من حيث المجالات، لكنه عميق في ما قُدم فيه، بحيث "يتخرج" صاحب الشهادة الابتدائية "أستاذا" في ما قُدم له، ما دام قد تلقى برنامجا مختصرا مقدورا عليه من طرف الأستاذ والتلميذ وكل مكونات البنية التربوية..

 

تقليص المنهاج يخفف أيضا حمل الوزن عن أجساد التلاميذ الغضة، والحمل المادي عن الآباء المنهكين أصلا، كما يترك حيزا زمنيا للتلاميذ لاستغلاله في أنشطة أخرى، لعبا كانت أو مساعدة أسرية،، خاصة في البوادي..

 

المقارنة التاريخية تجد مشروعيتها -وإن بمستوى أقل- حتى في التنظيم التربوي المرتبط بالبنية العقارية والموارد البشرية، حيث كانت تسيطر ما يمكن أن نسميها بلغة الحال "المؤسسات الجماعاتية" التي عاودت الظهور كـ"موضة" بديلة لتشتيت المال والجهد والعنصر البشري بين "تشتتات" بشرية لا تفرز، بكل مستوياتها، العدد المطلوب لتكوين فصل دراسي واحد!!!..

 

إن العودة إلى اعتماد مدارس جماعاتية مجهزة لا تمكن فقط من ترشيد النفقات على مستوى بناء وصيانة الحجرات والمرافق الإدارية والمساكن الوظيفية وأطر التدريس والأطقم الإدارية...، بل وتساهم أيضا في استقرار الموارد البشرية في المراكز المجهزة بشروط الحياة الكريمة للموظفين "المهاجرين" من أجل العمل، وكذلك في فك العزلة عن الدواوير من خلال الربط الطرقي عن طريق شق مسالك يساهم المتدخلون عبرها في توفير وسائل نقل تأخذ التلاميذ إلى المؤسسات وتعيدهم إلى منازلهم..

 

تجهيز المؤسسات والمراكز يمكّن العاملين من الاستقرار فيها، ويوفر جهدا ومالا ووقتا يمكن استغلاله في التحضير والتصحيح، ما دامت الكراريس في عين المكان، بدل الرحلات المكوكية اليومية التي لا تساهم في راحة ولا في إنتاج!!!..

 

إن الفاعل هنا هو الأستاذ، ولا يمكن تجاوزه بحال، فهو عمود العملية وعمدتها ومحورها، ولا يمكن أن تصلح إلا بإصلاح حاله، ولا يمكن أن يعود لممارسة مهامه كما كان بحب وتفان إلا بإعادة الاعتبار المادي والمعنوي له.. الاعتبار المادي بأجر مبدئي عادل يناسب مهمة "صناعة المواطن"، وخلق تحفيز يضع فرقا بين المجد السابق بالخيرات والمقصر المقتصد،، واعتبار معنوي عبر تكريس تعامل تفضيلي مع مربيي الأجيال يرسخ إحساسا بالحاجة إليهم، بل بكونهم عماد المجتمع الذي لن يقوم ولن يستقيم بدونهم، بدل الحال حيث يزهد كل الناس في دورهم..

 

عمل الأستاذ لا يكتمل دون تكوين أساسي جيد، وتكوين مستمر مؤمّن بتأطير ومراقبة من هيأة الإشراف والمراقبة التربوية والإدارية، يضمن(التكوين) للمجتهد فيه استحقاق مستحقات التحفيز السابق الذكر..

 

يجب إذن توفير طاقم إداري وتربوي يعفي الأستاذ من الأعباء الإدارية من جهة، ويمارس مستلزمات الرقابة والتوجيه، بحيث يعزز المجد ويقوّم المخل.. لكن، وليكون ذلك، وجب أولا توفير أولئك المشرفين وتكوينهم وشد أزرهم..

 

أما توفير وسائل الإيضاح التعليمية، فإنه يصبح من نوافل القول في حالة اعتماد المؤسسات المركزية المجهزة، لأنه يتبع بالضرورة البنية الملائمة المحدثة..

 

استدراك على مستوى البدء، وهو أنه لضمان تكافؤ الفرص في التعليم الأولي، خاصة بين المدن والبوادي، ولتمكين المتعلم من اكتساب الكفاءات القبلية الضرورية المطلوبة قبل الانخراط في التعليم الرسمي، يمكن استغلال مؤسسات لا يخلو منها حي ولا مدشر، أي المساجد التي يمكنها، إن أعيد لها دورها الأصلي الريادي الجامع، أن تشكل عضدا قويا أمينا للنظام لتعليمي، سواء في طوره القبل مدرسي، أو في مجال محو الأمية، أو حتى كشعبة تقليدية مسترسلة لتعليم عتيق يخرّج حملة القرآن الكريم وحفاظ متون قواعد اللغة العربية والفقه الإسلامي، لمن أراد أن يستمر فيه بعد اجتياز مرحلة التعليم الابتدائي.. والمسألة هنا ليست محض افتراض أو تنظير، بل هو واقع في بعض القرى، حيث يزاوج التلميذ بين التعليم المدرسي في الوقت الرسمي، والتعليم المسجدي في غيره من الأوقات،، وقد أتى أكله بالفعل..

 

إن "نظاما تعليميا" طلبة جامعاته يصرّفون الأفعال بإسنادها للتاء المربوطة، وطلبته لا يحافظون حتى على ممتلكات إقاماتهم في المعاهد التي يتكونون فيها، ونسبة البطالة بين المتخرجين منه أكثر منها بكثير بين الأميين، لأحق أن يصنف "فوضى تجهيلية تخريبية"!!!..

 

 

انتهى..

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة