الوجه الآخر لاحتفالات عيد المولد النبوي
إيمان العلمي
ذكرى المولد النبوي الشريف حدث مقدس لدى مسلمي العالم، يعبرون من خلاله عن حبهم للرسول الكريم، و عن فرحتهم بيوم مولده. هو عيد سنوي تتم مراسم الاحتفال به بداية من شهر ربيع الأول إلى نهايته، و تختلف المدة من منطقة لأخرى، نظرا للجدل القائم حول ما إذا كان يوم ميلاد خير البرية يوافق 12 من ربيع الأول أو 17 من نفس الشهر ، إلا أن الكثيرين يميلون إلى اعتبار يوم 12 هو يوم الميلاد ، وذلك لكونه عليه الصلاة والسلام كان يصوم كل اثنين قائلا : (هذا يوم ولدت فيه ) .
إن ذكرى ميلاد النبي حدث هام، ذكر أن أول من احتفل به هو الملك ابو سعيد كوكبري علي بن بكتكين ( 548-630ه)حاكم أربيل على عهد صلاح الدين الأيوبي ، يعد من كبراء الأجواد، عرف عنه التواضع والعدل و الكرم كما جاء على لسان الإمام السيوطي(849-911ه). كانت الاحتفالات تتم بعمل الحلويات ، ونظم القصائد ، و توزيع الصدقات في أجواء روحانية صافية . و هذا النهج نفسه سارت عليه الدولة الفاطمية، بحيث كان الاحتفال عبارة عن صواني حلويات توجه نحو الأزهر ، تلقى الخطب والقصائد في مدحه عليه الصلاة والسلام والتذكير بجوانب من سنته، ثم ينتهي الاحتفال .
تحتل ذكرى المولد النبوي مكانة سامية في المغرب، فالاحتفال لا يستغنى عنه اليوم، ولا يمر مرور الكرام، وإنما يعتبر عطلة سنوية، وكل منطقة تحتفي بطريقتها حسب ما جاءت به العادات و التقاليد ، ويمكن الحديث أساسا عن مناطق محددة لكونها تشتهر بطقوس وعادات خاصة متميزة عن غيرها ، قد لا تستحسن أو تنال إعجاب الجميع .
تعد مدينة مكناس من أهم المدن التي يحج إليها الناس من مختلف المدن بغية إحياء هذه المناسبة ، غير ان الاحتفال في هذه المدينة لا يتم على الطريقة العادية و المألوفة التي عرف بها ، فمن غير الحلويات التي تجدها على حافة الرصيف ابتداء من (باب جديد ) ، وصولا الى المدينة القديمة و زاوية (الشيخ الكامل ) ، حيث تجد في كل أرجاء المدينة خياما نصبت ، منها ما هو مأوى للذين حجوا للمدينة ، و منها ما جعل مطعما للمشويات و ما لذ و طاب من المأكولات الشعبية ، أما باقي الخيام فنصبت لما يسمى ( قياطن الحضرة )، حيث يجتمع عدد هائل من الناس، يشاهدون و يستمتعون برؤية (المجذوبين )؛ و هم أشخاص يدّعون النسب الشريف ويستعرضون القوى الخارقة بشرب المياه المغلية، وأكل الزجاج ، وضرب كل قطعة متاحة من جسدهم دون أي تعبير عن الإحساس بالألم، يتم ذلك في أجواء تعلوها أصوات موسيقى (السواكن )الصاخبة وسط( تحيار) النساء و الرجال و أجواء الحضرة على انغام (ميرة ، عيشة ، حموا...) كلٌّ وما يهز كيانه، ويحرك هواه، وهو مايطلقون عليه: (صحاب الحال أو الهوايش ) ، كأن كل شخص ينتظر دوره ليرقص بكل ما أوتي من قوة على هذه الأنغام إلى أن يغمى عليه ليرشوه بماء الزهر ، و يزغردون له إعلانا له بالخلاص .
ويجدر القول بأن هذه المشاهد أحيانا تكون مرعبة ، خاصة بالنسبة للأطفال الذين يعاينون هذه المشاهد بكل براءة و رعب و استغراب ، ولعلي أتذكر أني كنت أرافق أمي و خالاتي اللائي كن يتجهزن لحضور هذه الأجواء، ويحرصن على عدم تفويت أي خيمة من خيم الحضرة بغية المشاهدة و تبادل أطراف الحديث و الاستعاذة بالله في الأخير ، خاصة خالتي الكبرى التي مازالت تؤمن بشدة ب (صحاب الحال ) و( مَّالين المكان) كناية عن الجان التي تزعم ان منزلها لا يخلو منهم، وأنها تعلم بشكل كاف عن هذا، مما يسلب منا حق مجادلتها في الموضوع ، و أتذكر أيضاً انه و قبل كل موعد خروج كانت أمي تحرص أن تكون ملابسنا بعيدة كل البعد
عن اللونين الأحمر و الأسود بدرجاتهما ، مستحضرة أسطورة قائلة بأن (المجذوبين ) يكرهون أن يلبس غيرهم هذين اللونين ، و أن أحد الجارات في يوم ما كانت تتجول كالعادة ، لتهجم عليها إحدى (المجذوبات )، وتحاول التهامها كما هو الأمر بالنسبة للمواشي التي يهديها أغنياء المدينة (للطايفة)، والتي يتم التهامها نيئة بعد ذبحها على أبواب (الشيخ الكامل) .
كل هذا يتم قبل اليوم الأساسي ، ما يسمى بيوم الطائفة ، فمع طلوع فجر هذا اليوم، يتجهز سكان المنطقة بلباس أبيض نظيف ، و بهدايا من قوالب السكر و الشموع البيضاء ورؤوس مواش أحيانا، يتوجهون صوب الشيخ الكامل ليطلبوا كل متمنياتهم في خنوع و ذل ،متمسحين بالضريح طالبين البركة والشفاء والغنى ...
بعد هذا ينتظر المتفرجون مرور الطوائف ، التي تجتمع من مدن مختلفة ،طائفة سيدي بابا ، طائفة مولاي إدريس، وطائفة الغرب ... ، لتمر في مواكب يغلب عليها صوت (عيساوة ) و المديح و الجذبة و التكبير و الزغاريد ، كل على حدة... و هكذا يعلنون إنهاء الاحتفال .
لا يخفى أن هناك من يعتبر هذه الطقوس مقدسة، تدخل ضمن موروث مدينة مكناس، بحيث يجب الحفاظ عليها و عدم المساس بها ، إلا أن هذه العادة، في نظر آخرين، أصبحت تشكل خطرا على الساكنة سواء من حيث التلوث الذي تعرفه المدينة خاصة في هذه الفترة إذ تفوح منها رائحة بقايا الذبائح ، فضلا عن عمليات السرقة التي تحدث بفعل الازدحام ، ولا ننسى أعمال الشعوذة التي تأخذ الحصة الأكبر ... .
وفي الختام نود التساؤل عن موقف الحكم الشرعي من هذا الاحتفال، ونريد معرفة أي الطرحين تتبنون ، هل الطرح القائل بتحريم الاحتفال و اعتباره بدعة، أم الطرح القائم على اعتبار الاحتفال فرصة لتعظيم النبي و طلب شفاعته والاهتداءبسنته وطلب بلوغ الصفاء الروحاني ؟.
