دور التراث العلمي العربي
دغوغي عمر
شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين اهتماما متزايدًا بعلوم الحضارة العربية الإسلامية، سواء من جانب الدارسين العرب والمسلمين أو من جانب المستشرقين والفلاسفة ومؤرخي العلم الغربيين على حد سواء،ولكن البعض يتساءل أحيانًا عن جدوى البحث في كتب قديمة تعود بنا إلى ألف عام أو يزيد.
ولماذا تبذل كل هذه الجهود المضنية في رصد المخطوطات أو جمعها وفهرستها وترميمها وحفظها، ثم في تحقيق نصوصها ومعالجة نماذجها نسخًا وقراءة وحلا لمشكلاتها واستجلاء لغوا مضها، ثم في تناولها بالدراسة والتحليل بحثا عما يمكن أن تتضمنه من معلومات قد تفيد أو لا تفيد؟
وأنصار هذا الاتجاه في التعامل مع التراث العلمي – رغم قلتهم – ينكرون الماضي تمامًا ويزدرون أي محاولة لإحياء تراثه. ويوجد في ساحة الفكر العربي من يتبنى هذا الموقف الرافض لأي ربط بين التاريخ والحاضر بحجة أنه لا يصمد أمام أي تحليل عقلي دقيق، حتى وإن كان يفيد في استنهاض الهمم ورفع المعنويات، فليس في التاريخ البشري – فيما يزعمون – أمجاد معنوية تتحول إلى جزء من «الجينات» المكونة لشعب من الشعوب وتظل كامنة في أفراده على شكل استعداد للنهوض ينتظر اللحظة المناسبة لكي يصبح واقعا متحققًا. بل إن هناك، بكل أسف من أبناء بلدتنا – نحن معشر العرب والمسلمين – من يعلن صراحة أن إحياء التراث إنما يكون بقتله.
وإذا كان لأنصار ما يسمى «القطيعة المعرفية» حجمهم ومبرراتهم، فإن قضية الدفاع عن التراث العلمي وأهميته من القضايا التي تثار بين الحين والحين في مؤتمرات وندوات عالمية، وكان – ولا يزال – الحديث عنها مرتبطًا بمبحث تاريخ وفلسفة العلم. فقد تساءل «روبرت هول» في خطابه أمام الجمعية البريطانية لتاريخ العلوم سنة 1969م عما إذا كان من الممكن أن يصبح تاريخ العلم تاريخًا؟، أي يصبح مجرد شيء من الماضي:
لمكانة التي يمكن أن يحتلها تاريخ العلم م عقدت في فلورنسا ندوة لمناقشة ا1991وفي عام والتقنية في المجتمع الأوروبي المعاصر، وهي تماثل ندواتنا التراثية على المستوى القومي.
م ألقى «جون هيدلي بروك» كلمة في الاحتفال بالعيد الخمسين 1997وفي سبتمبر من عام شاركة الاتحاد البريطاني لتقدم العلوم، (الذهبي) للجمعية البريطانية لتاريخ العلوم الذي أقيم بموجعل عنوان كلمته السؤال التالي: هل هناك مستقبل لتاريخ العلوم؟
وكان دافعه لهذا التساؤل أننا نسمع أحيانًا شائعات تردد أن نهاية العلم قد اقتربت، ولن يبقى هناك شيء نحتاج إليه من العلم بعد ما نتمكن من استنساخ الإنسان ونتوصل إلى تفسير لحظة الخلق ألا تعني نهاية العلم نهاية لتاريخه؟ ثم يقول «بروك» معلقًا: «من الواضح لأول وهلة أن هذا غير ممكن، ومع ذلك فإن المؤرخين مشغولون بهذه القضية التي يزداد الحديث عنها من نهاية كل من القرون الأربعة الأخيرة.
ونحن من جانبنا نقول: إذا افترضنا جدلاً أنه بالإمكان قطع الصلة بالتراث، فهل ستفعل ذلك معاهد ومؤسسات الاستشراف المعنية بتراثنا؟! إننا نعرض في هذه المحاضرة بعض جوانب القضية المثارة قوميًا وعالميًا.
مظاهر وأسباب الاهتمام الدولي بالتراث العلمي
يقول مؤرخ العلم المعاصر «جان دومبريه» «إن التراث العلمي لا يزال مجال عمل ضخم لم يتم». ويدعم صحة هذه المقولة ما تشهده حركة إحياء التراث العلمي منذ عدة عقود من نشاط منظم على مستوى العالم يهدف على إعادة نشر الأعمال الكاملة لكبار العلماء، على اعتبار أنه مسؤولية تستوجب الرعاية والتعاون من جميع الدول، بما في ذلك الدول الغنية من العالم الثالث. فقد حدث أن لجأت الهيئات المسئولة عن نشر الأعمال الكاملة للعالم الشهير «برنوللي» إلى تدعيم جهدها عن طريق الاكتتاب العالم، ويجري حاليًا إعداد طبعة جديدة لهذه الأعمال.
من خلال التعاون بين أكثر من سبع دول، وسوف تصدر أجزاء هذه الطبعة تباعا في نحو خمسة وأربعين مجلدًا. كذلك أمكن إصدار مجموعة الأعمال الكاملة لعالم الرياضيات المعروف «أويلر» عن طريق الاستعانة بإمكانيات ست دول، بالرغم من أن قاعدة العمل كانت تقع جغرافيا في سويسرا.
وقد شرعت الولايات المتحدة الأمريكية حديثًا في تبني هذا المبدأ لإصدار أعمال العديد من العلماء أمثال: «جاليليو» في إيطاليا، و«نيوتن» في إنجلترا، و«جاوس» في ألمانيا، و«ديكارت» و«لابلاس» و«لاجرانج» في فرنسا، وغيرهم. ولا ينبغي أن يدهش المرء لطول الوقت الذي يستغرقه إنجاز مثل هذه المشروعات، ناهيك عن ضخامة التكلفة، فقد استغرق إصدار أعمال عالم الرياضيات الشهير «كوشي» أكثر من خمسين سنة.
ولا نجد في تعليقنا على هذا العرض الموجز لخريطة الاهتمام العالمي بقضايا التراث العلمي أفضل من كلمات «جان دومبريه» التي تقرر وجود فجوات واسعة في الأعمال التي تضمنتها هذه النشاطات، إذ «ليس للعلماء غير الغربيين أي وجود بها، كما أنهم لم يحظوا حتى
بالإعلام بأي أسلوب شامل، وفضلا عن ذلك فإن علماء الرياضيات والفلك يظهرون بصورة أبرز من التي يظهر بها الجيولوجيون وعلماء التاريخ الطبيعي عمومًا. وهذا يؤدي إلى الانحياز بصورة منفردة، فنحن اليوم لا نزال نعرف شارحي إقليدس، بدءًا من ثابت بن قرة إلى أديلارد البائي، ومن جيرار الكريموني إلى عمر الخيام الذي لا يمكن إنكار أنه كان أيضًا مبدعًا وشاعرًا وعالما في الرياضيات.
ونضيف من جانبنا أن هذا التحيز الواضح في الاهتمام العالمي بتراث العلماء الغربيين دون غيرهم يجب أن يقابله جهد مكثف من جانب أصحاب الحضارات المختلفة التي أسهمت في صنع التقدم العلمي والتقني عبر الأجيال، وخاصة أبناء الحضارة العربية الإسلامية التي ظل علماؤها الرواد لأكثر من ثمانية قرون طوال يشعون على العالم علما وفنا وأدبا ومدنية، ولا نعرف اليوم شيئا عن أغلب مؤلفاتهم ومخطوطاتهم المفقودة، أو التي لا تزال بكرًا في مظانها المختلفة بأنحاء متفرقة من العالم، تنتظر من يتولى البحث عنها وإحيائها لتحظى من جموع الباحثين بدراسات تحليلية معاصرة.
وليس هناك من شك في أن مثل هذه الدراسات التراثية للعمل الإنساني من شأنها أن توضح أهمية التحليل المنطقي لتاريخ العلوم وتقنياتها، فلا يمكن لأي باحث منصف مدقق إلا أن يضع النشاط العلمي والتقني في سياقه التاريخي العام، على اعتبار أن هذا النشاط عملية ممتدة ومتصلة خلال الزمان، ولن يوجد فهم واقعي للعلم بدون نقد متواصل له، فليس ثمة معرفة إنسانية لا تفقد طابعها العلمي متى نسي الناس الظروف التي نشأت في أحضانها، وأغفلوا المسائل التي تولت الجواب عليها، وحادوا عن الهدف الذي وجدت أصلا من أجله، ومن هنا يستحيل الفصل بين التراث العلمي ومراحله التاريخية، نظرًا لأهمية تاريخ العلم في صياغة فلسفة العلم ونظريته العامة وإذا ما ران على العلم جهل بتاريخه، فإن لا محالة مخفق في مهمته.
وإذا كانت الخبرة الإنسانية تدعونا إلى الاعتبار بدروس التاريخ، فإن تاريخ العلوم لا يدلنا فقط على المراحل الزمنية للتغيرات التي شهدها، ولكننا نتعلم منه أيضًا أن المشكلات والقضايا العلمية التي تواجهنا الآن ليست جديدة تمامًا، فالأساليب التي عولجت بها هذه القضايا في ظروف مغايرة عبر العصور لن تخلو أبدًا مما يمكن أن نفيد منه اليوم وغدًا. ولذا فإن أية نظرية تطرح لنقد العلم قديمًا وحديثًا تكتسب أهميتها من المبررات المنطقية التي تقدمها كمسوغ لإعادة قراءة تاريخ العلوم في ضوء المرحلة التي يبلغها من تطوره على أساس ما يستجد دائمًا من أفكار تتعلق بالجوانب المختلفة لنظرية العلم والتقنية، بحيث تجعل من هذه القراءة المعاصرة أساسًا لتحليل الواقع واستشرافا لآفاق المستقبل.
ومن هنا نعثر على السبب الحقيقي وراء الاهتمام العالمي المتزايد بإعادة تحليل تاريخ العلم والتقنية برؤية موضوعية قدر الإمكان من خلال المؤسسات الأكاديمية والمجلات الدورية والترجمة والتأليف وإحياء تراث الإعلام في فروع العلم المختلفة.
ومن هنا أيضا تظهر بجلاء أهمية إحياء التراث العلمي للحضارة العربية الإسلامية، والعودة من خلال الدراسات التأصيلية بالعلوم التخصصية المعاصرة إلى جذورها في المجتمع الذي كان شاهدًا على ميلادها، والتعرف على طبيعة الظروف التي سمحت للمفاهيم والأفكار الوليدة أن تنمو وتزدهر، وتصبح بعد ذلك فروعًا في شجرة المعرفة، وروافد لا غنى عنها لتغذية الحضارة الإنسانية؛ ذلك بعد الحقائق العلمية ليست كلها على درجة متكافئة من الأهمية والدلالية عندما يتناولها المؤرخ بالتحليل والتفسير في أي عصر من العصور، كما أن قيمة العلماء ومكانتهم تتحدد بقيمة القوانين والنتائج العلمية التي يتوصلون إليها، وبمدى أثرها في دفع مسيرة التقدم العلمي والحضاري.
