مفهوم المعرفة و الربيع الشعبي

مفهوم المعرفة و الربيع الشعبي

مصطفى هطي

 

المعرفة كلمة مشتقة من عرف يعرف معرفة ، والعرفان العلم، ورجل عَرُوف وعارف اي يعرف الأمور ولا ينكر أحدا رآه. ومنها العريف والعارف بمعنى العليم والعالم . ( لسان العرب ط 1 مادة عرف).

فالمعرفة لغة تدل على العلم بالشيء على أوسع نطاق ، وذلك شرطٌ للرجل ليصبح عريف القوم اي الذي يعرف كيف يدبر أمرَ ما أُسنِد اليه سلوكا وعملا على ارض الواقع، وبهذا تشمل المعرفة أمرين متلازمين هما العلم وتوظيف العلم في الفعل والسلوك، اي المعرفة وتطبيق المعرفة إذ لا يستقيم أحدهما دون الاخر، فالمعرفة وحدها بدون تطبيق تعني عدم الاستفادة من تلك المعرفة النظرية وبالتالي عدم المعرفة اي الجهل، بينما العمل او السلوك بدون معرفة/علم يعود بالكارثة على الفرد والمجتمع والدولة والأمة كما تجلى ذلك في الدول العربية والإسلامية طيلة العقود الماضية في المجال الديني  و السياسي والاجتماعي والثقافي وغيرها من المجالات.

وقد ربط الاسلام بين المعرفة وتطبيقها وحذر من نتائج الفصل بينهما، هذا الفصل الذي تترتب عنه عواقب دنيوية وأخروية تتمثل في الشقاء والضعف والتخلف عن مسايرة التقدم الحضاري وجلب غضب الله ومقته  وعقابه يوم الحساب.

 ففي القران الكريم قال تعالى:  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ.  كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ). ) سورة الصف ، الايتان:2-3(، فلفظ "تقولون" في الآية يحيل على المعرفة لأن المخاطبين يقولون شيئا يعرفونه لكنهم لا يطبقونه في افعالهم و سلوكياتهم ومعاملاتهم. «قال الإمام الطبري في تفسير الاية لم تقولون القول الذي لا تصدقونه بالعمل، فأعمالكم مخالفة لأقوالكم "كبر مقتا" عظم مقتا وكرها عند ربكم قولكم ما لا تفعلون . والمقت شدة الكراهة. » (انظر موقع اسلام ويب مختارات من تفسير الايات(http://fatwa.islamweb .

  وفي الحديث النبوي  عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ »(رواه البخاري ومسلم)..  ومعنى تأمر بالمعروف اي انك تعرفه كأفكار وتجارب وخبرات وتقوله للناس  ولا تطبقه وتنهى عن المنكر اي تَعْرِفُهُ كذلك ولا تتصرف تصرف من يعرف ان هذا منكر ليس له نفع في الدنيا والآخرة.

 ومن الاخبار ما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين في اقتران المعرفة بالتطبيق ، فعن علي – كرم الله وجهه - أنه ذكر فتناً في آخر الزمان. فقال له عمر: متى ذلك يا علي؟ قال: (إذا تفقه لغير الدين وتعلم العلم لغير العمل والتُمِست الدنيا بعمل الآخرة) (رواه عبد الرزاق وصححه الألباني.). فالخبر هنا يشير الى من بذل مجهودا كبيرا في تحصيل المعرفة لكن ليس بهدف تطبيقها وإنما بهدف الظهور بمظهر العارف بالأشياء.

 وعن لقمان بن عامر قال: كان أبو الدرداء – رضي الله عنه – يقول: (إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر. فأقول: لبيك ربّ. فيقول: ما عملت فيما علمت) (نقله الدارمي وصححه الألباني). ومعنى "ما عملت فيما علمت" اي ما حدود تطبيقك لما عرفت من افكار ومعلومات وخبرات سواء في العبادات او في المعارف التي تستقيم بها حياة الأمة في الدنيا كأن يكون شخص ما يمتلك معرفة في مجال العلوم الطبيعية او العسكرية او الاجتماعية او النفسية او القانونية وغيرها ولا يطبق تلك المعرفة إما قصدا او تهاونا،  كمن يعرف قانون السير ومخاطر عدم احترامه ولا يطبقه فتنتج عنه حوادث السير وقس على ذلك.

 ونقل عن أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري قال: سمعت محمد بن الحسين السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الخواص يقول:«ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم».((انظر موقع مكتبة المدينة:  http://www.madinahnet.com). فالعبرة ليست بكثرة المعارف وإنما بقدر تطبيق هذه المعارف ولو كانت المعرفة قليلة .

 والمعرفة مفهوم تطور مع تطور الحضارات , فقد كان يعني في الماضي التوفر على قدر كبير من المعلومات والخبرات والأفكار بصرف النظر عن مدى تطبيقها في الواقع وبقي هذا المفهوم معيارا يقاس به تقدم المجتمعات وتخلفها ، إلى ان ظهر المجتمع الصناعي الحديث فتحول معه هذا المفهوم فأصبح مفهوم المعرفة يعني تطبيق المعرفة  وإلا اعتبر المجتمع جاهلا , لذلك نجد لفظ المعرفة في اللغة الانجليزية يتمحور في مجمله حول الإدراك والفهم و يعني : «امتلاك صورة خاصة محددة من القدرة على عمل شيء ما.» (مجلة الرياض الموقع الالكتروني http://www.alriyadh.com).

فمن خلال هذا التعريف يتضح ان الفكرة او المعلومة ما لم تقترن بالقدرة على الانجاز وترجمة ذلك الى أرض الواقع فهي ليست معرفة ، وأصبح معيار تقدم الدول اليوم وتخلفها يقاس بمدى استيعابها للمعارف وتطبيقها على ارض الواقع في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والعلوم الطبيعية وغيرها.

إن هذا التطور الذي طرأ على مفهوم المعرفة في الحضارات العالمية ومع ظهور المجتمع الصناعي اساسا أعطى للمعرفة مفهوما وظيفيا إجرائيا يعني تطبيق الافكار والمعلومات والخبرات عمليا في السلوك والفعل، وإذا لم يصحب ذلك الادراك والفكر والخبرة والفهم تطبيق فإن التوفر على كل ذلك ليس معرفة بل جهلا مركبا لان الذي لا يعرف لازال في المرحلة الاولى للجهل وهو معذرو وعلينا أن نبذل مجهودا لتمكينه من المعرفة، أما من عرف دون تطبيق فهو في مرحلة معقدة من الجهل ولن يدخل دائرة المعرفة إلا بتطبيق ما يعرف . فنحن إذا امام مفهوم جديد للمعرفة يعني تطبيق المعرفة وإلا اعتبر الانسان جاهلا يسري عليه تشبيه القرآن الكريم لليهود الذين لم يطبقوا ما في التوراة بالحمار يحمل اسفارا.

ان هذا الربط بين التوفر على المعارف وتطبيقها باعتبار ذلك هو المعرفة يحيلنا على قضية جوهرية مفادها ان الانسان الذي لا يطبق ما يعرفه هو انسان جاهل مهما ادعى من معرفة بالحداثة او معرفة بالدين، فهذا يعني ان العقل لم ينجح في إدراك تلك المعارف واستيعابها استيعابا تاما  لكي يحولها الى فعل أو سلوك أو انجاز يظهر اثره على ارض الواقع.وفي هذا المستوى نكون امام تعريف نظري مُتجاوز للمعرفة هو السائد في مجتمعنا العربي والإسلامي وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقدم وتنافس مع الدول المتقدمة إلا إذا انتقلنا من هذا المفهوم النظري المجرد من الوظيفية والإجرائية  الى  التعريف الوظيفي الاجرائي لمفهوم المعرفة الذي هو تطبيق المعرفة ودون ذلك فنحن مصنفون ضمن الدول الجاهلة.

ويترتب عن هذا انه مهما بلغت المعارف التي ننقلها لأطفالنا في الاسر ولتلامذتنا وطلابنا في المدارس والجامعات فإنها تبقينا في مرحلة الجهل المركب ولن يكون لها معنى إلا إذا نجحنا في تحويل تلك المعارف الى تطبيقات سلوكية وعملية  ترقى بنا في سلم التقدم الحضاري.

وهذه القضية تثير مجموعة من التساؤلات المحرقة في العالم العربي والإسلامي على مستويات الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة  بعد انطلاق الربيع  الشعبي الذي شكل قطيعة معرفية  مع ما قبله باعتباره فعلا وانجازا لمعرفة تراكمت في ذهن الانسان العربي والإسلامي حول الاستبداد بشكل عام والاستبداد السياسي على وجه التحديد منذ عقود ما بعد الاستقلال عن الاستعمار العسكري الغربي ، فعندما أدرك الانسان هذه المعارف المتراكمة واستوعبها جيدا نجح في تطبيقها فأنتج تحولا تاريخيا للقطع مع الاستبداد والفساد في بعدهما السياسي.

ومن هذه التساؤلات : ما أثر معرفة الله تعالى على السلوك الفردي والجمعي للامة؟ هل يمكن ان نصف انسانا ما بالعارف بتعاليم الاسلام ومقاصده على الرغم من عدم ترجمة تلك المعرفة الى سلوك  في الواقع؟ ما موقع المعرفة عند شخص ما تحدثه عن الصلاة والصيام والزكاة ومقاصدها ويجيبك انه يعرف ذلك ، ولا أثر لمعرفته تلك على سلوكه ومعاملاته وتجارته ووظيفته واسرته..؟ كيف يدعي زعيم حزب ما أو جمعية أو أي مؤسسة المعرفة الديمقراطية مثلا  ولا يطبق منها شيئا بل يجثم على صدر تلك المؤسسة الى القبر؟ أ يستقيم ان نسمي شخصا كالطبيب مثلا وهو يدخن او يشرب الخمر عارفا رغم معرفته بمضار ذلك؟ كيف يمكن أن نصف من يعرف ان  الرشوة حرام شرعا وممنوعة قانونا ومدمرة للقيم والاقتصاد وهو يتعاطى للرشوة بالعارف؟ وقس على ذلك كل المعارف التي يعرفها الانسان ولا يطبقها.

إن المعرفة بما هي تطبيق للمعرفة يجعلنا في دائرة الجهل ما دامت معرفتنا بالله ورسوله لا تنعكس على ارض الواقع في أعمالنا وسلوكياتنا ومن هنا ضعفنا أفرادا وأسرا ومجتمعات ودولا وأُمَّة  على الرغم مما نملك من المعارف والحقائق والخبرات ما يمكننا من التفوق والانتصار وقيادة الامم في العالم لو ترجم ذلك كله الى تطبيق تماما كما جسد ذلك المجتمع النبوي ودولة الخلافة الراشدة والمراحل المشرقة في تاريخ الدولة الاسلامية  حيث الترجمة وتطور علوم الطب والفيزياء و الكيمياء والرياضيات والسياسة والاقتصاد وغيرها مع ما يقتضي ذلك من اجتهاد مضني ومبدع لتنزيل ذلك وفق تطورات العصر.

إن هذه المرحلة التاريخية الجديدة التي يؤسس لها الربيع الشعبي والتي جعلت الاسلاميين وجها لوجه أمام السلطة تقتضي انتقال المجتمع بأسرع ما يمكن من المعرفة بالمعنى النظري التي كانت توظف في انتقاد الاستبداد والفساد والمستبدين والمفسدين من الحكام ، الى المعرفة بالمعنى الوظيفي الاجرائي اي تطبيق المعرفة بدءا من السلوك الفردي مرورا  بالأسرة والمجتمع والدولة وانتهاءا بالأمة.

 وما لم يتم هذا الامر بالتوازي فإن التجربة الاسلامية في الحكم ـ إذا اقتصرت على مستوى الدولة  فقط دون باقي المستويات (الفرد والأسرة والمجتمع) ـ تبقى مهددة بمخاطر الفشل وتفوت علينا فرصة نجاح الربيع الشعبي وبالتالي فرصة الانتقال من دول الجهل الى دول المعرفة.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

*
*
*
ملحوظة
  • التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
  • من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

المقالات الأكثر مشاهدة