الرئيسية | أقلام حرة | التنظيم السياسي بين الضرورة والتشكيك1

التنظيم السياسي بين الضرورة والتشكيك1

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
التنظيم السياسي بين الضرورة والتشكيك1
 

أعتذر، لأني قلت في المقال الماضي أنه كان الأخير في سلسلة تلك المقالات الناتجة عن التدوينات "الفيسبوكية" وما نتج عنها من سجالات عبر التعليقات والردود والتعقيبات، وأيضا جدالات الرسائل الخاصة، فإذا بي أجد هذا متساقطا بين الملفات، والفقرات التي لم تكتمل موضوعا يُنشر..

وتتمحور هذه "التجميعة" حول جدوى التنظيمات السياسية، وكذا شرعية الانتماء إليها، حيث يسعى المقال إلى التدليل على ضرورة وجود هذه التنظيمات كبنى هيكلية لتجميع الرؤى وتبويب الاختيارات، وبالتالي ضرورة اصطفاف كمّ من الناس فيها لإفراز نخب قيادة المجتمع، سواء للتخلص من نير الاحتلال العسكري المباشر، أو  للخروج من بوتقة الاستبداد والتخلف والاحتلال بالتدبير المفوض..

والحال أن الناس في الضيعات العربية لا يختلفون على شيوع التردي بمختلف أوجهه.. كما لا يختلفون على وجوب العمل لإصلاح وضع اتُّفق على نعته بالتردي.. ولا شك أن تحقيق هذا المطمح لن يتم إلا من خلال العمل المنظَّم الموجه المنسق.. وهذا بدوره لن يتحقق إلا بواسطة الانخراط الفردي في القوى المنظمة القائمة، المختلفة المشارب والاتجاهات والمواقف والخلفيات والبرامج(على الأقل على المستوى الشكلي، أو الافتراضي)، وإما -حال عدم وجود ما يستحق الانتماء أو التأييد أو التعاطف- عن طريق إقامة مشروع ملائم، وتسطير برنامج مستحدث، وتأسيس ما يمكن أن ينفّذ هذا البرنامج وينزّل ذاك المشروع، ودعوة الناس إليه، والعمل على تطبيقه، وفق القناعات والإمكانات المتاحة، وهذا لمن استطاع إلى ذلك سبيلا من المنظّرين وأصحاب الرؤى والكفاءات..

فأما من يسلّم بالفرضيتين السابقتين(وجود التردي، ووجوب تغييره)، ومع ذلك يقعد ويتخاذل، فهو لن يكون سوى مثبط حابط محبط، لا يجدر الالتفات إليه..

وأما من يسلم بذلك ويرى مثل ما يرى الآخرون، لكنه يسعى للإنقاذ بمبادرة فردية معزولة، فهو عابث، لاه، منفصل عن دنيا الناس، غير مدرك لأسباب السعي في مجال التغيير والتدبير السياسي، والتي ترتكز، من ضمن ما ترتكز عليه، على المؤسسات شريطة أن تكون جادة وصادقة وملتزمة ونزيهة... وهذا وجه ضرورية وجود تلك المؤسسات وحتمية الانتماء إليها، لأن القاعدة الأصولية تقول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". ولعل العمل على تغيير هذا الواقع المزري، الرديء، المتردي، "الحضيضي"... هو ليس من الواجبات فقط، بل إنه أوجب الواجبات العينية والآنية على الإطلاق. ولعل هذا الواجب لا يمكن أن بتحقق من خلال مبادرات فردية مبعثرة، ولعله توجد تنظيمات تزعم أنها تسعى لتحقيق ذلك.. والحالة هكذا لا أدري هل يمكن فعلا استنتاج "وجوب" تخندق كل شخص في ما يراه كفيلا بتحقيق الهدف المنشود، أو تأسيس البديل الكفيل بتحقيق ذلك،، أم أنه لا "وجوب" البتة، بل لا مسؤولية على أحد أصلا،،، أم أن هناك طريقا ثالثا لا نعلمه؟؟!!!..

إن الحضارة البشرية قد اهتدت إلى ضرورة تجمّع أناس لتأسيس كيانات سياسية يمكنها التنافس لتسيير الشأن العام.. وهو أمر واقع في جل بلدان المعمور، إما بصفة عملية، كما هو الشأن في الديمقراطيات الحقيقية، أو شكليا فقط، كما هو الشأن في مزارع الاستبداد،، وهذا في الحالات العادية.. أما في حالاتنا الاستثنائية، وبحكم الإجماع على ضرورة تغيير هذه الرداءة، فإنه لا يُتصور تغيير من طرف أفراد مشتتي الجهد، لأن مجموع قواهم -بهذا التشتت- يساوي صفر، تصديقا لقانون الميكانيك الكلاسيكية، وعليه لن تقوم لهذا الغثاء قائمة إلا بانخراط نسبة معتبرة منه في هياكل تنظيمية يمكن من خلالها تنظيمها، وتوجيه اهتمامها، وتوحيد طاقتها، واستثمار جهدها... أي أن الانتماء السياسي "لا بد منه"، لمجموعة من الناس على الأقل..

إن الانتماء السياسي، في حده الأدنى، هو مطلب ضروري نظريا، وحاصل واقعيا،، وإنما يجب أن يفعّل ويكون للأصلح، فإنما أخذنا عدونا بسبب الفوضى التي تعترينا نتيجة التشتت.. ولا يناقض الفوضى إلا التنظيم.. ولم تقم قوى التحرر من الاحتلال، ولا من الاستبداد، ولا من التخلف إلا من خلال الاصطفاف والانتظام في تنظيمات حقيقية، غير صورية، تتسم بالجد وتقوم على الصدق وغير ذلك من الصفات الضروري توفرها، والتي يمكن تحريها والتيقن من وجودها من خلال تقييم المواقف والمرجعيات والأدبيات والتاريخ والرجالات... لكل تنظيم موجود في ساحة المنافسة، أو، حال العدم، تأسيس البديل..

فالانتماء إذن يمكن أن يكون ضرورة تقتضيها مراحل أو حالات معينة، كما هو الأمر في مقاومة الاحتلال أو منافحة الاستبداد، كما يمكن أن تقتضيها سيرورة التدبير والتداول بشكل عام..

بالنسبة لمقاومة الاحتلال على وجه الخصوص، لعل غالبية المقاومين -عبر تاريخ وجغرافيا العالم- انتظموا في حركات تحررية منظمة ببعدها العسكري المحض، أو بجناحيها العسكري والسياسي.. بل إن كثيرا من الملاحظين يعْزون استمرار أوار شعلة القضية الفلسطينية لانخراط كثير من الفلسطينيين في التنظيمات السياسية والعسكرية الفلسطينية، والتزامهم في الانتماء إليها..

أما في ما يخص انتقاد الانتماء السياسي من حيث المبدأ، بذريعة ما يترتب عليه من إكراهات ومساوئ، فمعلوم أن لكل شيء شائب، ولا صفاء بالمطلق. لكن شوائب الانتماء لا تُدرأ باستئصاله و"التكريه" فيه، بل بمداواتها.. فقد يحصل الاتفاق في تشخيص المرض(شوائب الانتماء: التعصب، القيود...)، لكن ربما لن يتحقق ذلك فيما يخص العلاج، إذ قد يقول أحدهم بالبتر، وقد تكون المعالجة كافية وناجعة.. أما "التباهي" بعدم الانتماء السياسي أو الفكري، والاعتزاز بذلك والتفاخر به... بحجة أن المنتمين للتنظيمات مكبّلون وليسوا موضوعيين... فيكاد يصبح "موضة"، مع أن "عدم موضوعية المنتمين"، إن صح الإطلاق والتعميم، لا يمكن بحال أن يبرر تكريه الانتماء.. فالأعراض لا تؤدي بالضرورة إلى الاستئصال، وإلا ما وُجد سوي.. وعدم الموضوعية يجب أن يعالَج بالإحراج وإقامة الحجة، والدعوة إلى الموضوعية والترفع والاعتدال والاستقامة...

 

يتبع..

 
مجموع المشاهدات: 1590 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة