عبد الله الدامون
ليس هناك مصدر واحد في التاريخ يقول إن المغرب عرف حربا أهلية حقيقية؟ فكل ما جرى هو تلك «الحرْكاتْ» المتبادلة بين المخزن والقبائل الثائرة والمتمردة، والتي كانت في كل مرة تنتهي لصالح طرف ما، ثم تنتهي الحكاية.
في المغرب كانت أيضا مناطق تحت حكم المخزن ومناطق أخرى سميت بمناطق السّيبة، لكن لا أحد يعرف بالضبط ما إن كانت تلك السيبة حقيقية أم إن الناس كانوا فقط يحمون أنفسهم من سيبة أخرى، سيبة المخزن.
لكن هناك حقيقة ناصعة يغفلها الكثيرون، وهي أن المغرب يعرف حاليا حربا أهلية طاحنة تخلف آلاف الضحايا كل يوم، والفارق الوحيد بين حربنا الأهلية وحروب الآخرين الأهلية هو أننا لا نستعمل الرصاص في حربنا، بل نستعمل سلاحا آخر أشد فتكا... سلاح الأصابع.
منذ ما يسمى الاستقلال إلى اليوم، شهدت مناطق كثيرة من المغرب دمارا لا مثيل له، وتعرض مئات الآلاف من الأطفال للحرمان من التعليم والدواء، وماتت نساء كثيرات خلال الولادة بسبب غياب المستشفيات، وعانى ملايين الشباب من البطالة المزمنة التي تؤدي إلى الانحراف أو إلى الحمق، وصارت شوارعنا تغلي بدعارة مهينة، وتعرضت مدننا للخراب بسبب التشويه المعماري، وسكن مئات الآلاف في مدن القصدير وتم إنتاج مئات الآلاف من المتسولين.
خلال العقود الماضية، ظهرت طبقة من أغنياء الحرب الذين صاروا نجوم الغنى والبذخ، مع أنهم حصلوا على ثرواتهم بالمكر والخديعة، حيث باعوا واشتروا في أملاك الشعب وسطوْا على الأراضي والضيعات، وأخذوا الملايير كعمولات في الصفقات المشبوهة، واحتكروا رخص النقل والمقالع والصيد.
وخلال العقود الماضية، تغلغلت شبكات نهب في مختلف المؤسسات ونهبت واشترت الذمم والضمائر، وحولت البلاد إلى لوبيات تتصارع على مصالحها مثل فيلة هائجة، بينما الناس البسطاء مثل عشب مسحوق تحت أقدامها.
كل الأشياء المذكورة أعلاه، وغيرها كثير، لا يمكن أن تحدث إلا في بلدان تعرف حربا أهلية طاحنة، والفارق الوحيد هو أن الحرب الأهلية العادية يكون أبطالها محاربين يحملون البنادق ويتسلحون بالمدافع، بينما أبطال حربنا الأهلية فاسدون يحملون الأقلام ويتسلحون بالنفوذ والعلاقات.
الحرب الأهلية التي تـُدار بالنار والرصاص تقتل بضعة آلاف من الناس فقط ثم تعود المياه إلى مجاريها، لكن الفساد يقتل أرواح شعوب بكاملها ويجعل الناس مجرد أشباح هائمة بلا بوصلة ولا أمل في المستقبل.
الحرب الأهلية الطبيعية تدفع عددا من النساء إلى الاسترزاق بأجسادهن في الشوارع والمواخير، لكن الفساد يخلق منهن مئات الآلاف ويصدر الفائض نحو باقي القارات.
القنابل والمدافع في الحروب الأهلية تدمر المؤسسات وتسبب أضرارا للمدارس والمستشفيات والإدارات، لكن الفساد أسوأ بكثير لأنه أصلا ينهب الميزانيات المخصصة لبناء المدارس والمستشفيات.
الحرب الأهلية تجعل الناس يهربون مؤقتا من بلادهم وهم يتحرقون شوقا إلى العودة إليها من أجل العمل على بناء ما دمرته تلك الحرب، بينما الفساد يُهجّر ملايين المواطنين نحو مختلف بقاع العالم وكلهم يلعنون ظروفهم ويرددون شتيمة «ينـْعل بُوها بْلاد هادي» ويقسمون أنهم لن يعودوا إليها أبدا.
الحرب الأهلية تنتج عددا كبيرا من المتسولين وأصحاب العاهات، الذين يضطرون إلى ذلك للبقاء على قيد الحياة، بينما الفساد ينتج جيشا من المتسولين الذين يحترفون المكر والخديعة في مجتمع مريض.
في الحرب الأهلية، تسقط القنابل على المدن فتتشوه ثم يعاد بناؤها بسرعة وبطريقة أجمل؛ وفي حالتنا تولد المدن ممسوخة بسبب الفساد والرشاوى والبناء بأية طريقة وفي أي مكان.
في الحرب الأهلية، يجوع الأطفال ويموتون بسبب الأمراض لأن المجتمع كله يعاني ويلات الحرب؛ وفي الفساد، يموت الأطفال بالبرد والمرض بينما الأغنياء يتبوؤون المقاعد على لائحة «فوربس» لأغنى أغنياء العالم.
في الحرب الأهلية الطبيعية، لا بد أن ينتصر طرف على آخر، أو ينتهيا إلى إلقاء السلاح وعقد معاهدة سلام؛ لكن في حالة حربنا الأهلية، يرفض الفساد الهزيمة، وأكثر من هذا فإنه يرفض عقد معاهدة سلام مع الشعب.
من يطالع الأرقام المخيفة للنهب والاختلاسات التي جرت في المغرب منذ الخمسينيات إلى اليوم، سيجد فعلا أن حربنا الأهلية هي الأسوأ من بين كل الحروب الأهلية في العالم، لأنها حرب قضت على أرواح وقيم الناس بينما هم لا يزالون أحياء، أو يعتقدون ذلك على الأقل.
