عبد العزيز الإدريسي
يلاحظ أن جميع الدول المستقلة بدأت حياتها بتصور مجتمع يؤسس طبقا للنمط الأوروبي مع الحفاظ على الخصوصيات والعادات والتقاليد المتجدرة في كل مجتمع إنساني يسعى إلى التقدم والازدهار العلمي والفكري والإيديولوجي، والتطور النموذجي المتسارع من اجل مواكبة الركب العالمي، وأساسا الدولة المتطورة تكنولوجيا في المجال العلمي وتقنيات التواصل الإعلامي ونقل المعلومة عن بعد من مكان إلى آخر في أدق صورة وصوت عبر الأقمار الاصطناعية، وتصل هذه المعلومة في وقت جد قياسي إلى أبعد بقعة في الكرة الأرضية، بحيث أصبحت هذه التكنولوجيا المحور الأساسي في التحكم في الحركات ونقل الخبر بكل أمانة وصدق، أو حتى من باب الدعاية وجس النبض من أجل تداول الأخبار والانشغال بها صباحا ومساءا إلى أن تظهر الحقيقة أو يتوارى الخبر وينسى برمته، وقد يحفظ أو لا يحفظ في ذاكرة الإعلام أو لدى المهتمين من الإعلاميين والسياسيين والباحثين والدارسين، قصد توظيفه عند الحاجة أو فقط من اجل التاريخ، أو استعمال الحدث سياسيا من اجل الكسب المادي والمعنوي أو حتى الحربي، إن اقتضى الأمر ذلك، لذلك فقد أنشأت رموز ومؤسسات الاستقلال وأجهزة الحكم والإدارة، والأحزاب السياسية، وبنيات السلطة وصياغة الدساتير التي تنبثق منها القوانين المنظمة للحياة اليومية للشعوب والمؤسسات الدستورية وفق نظرية كل دولة ونظامها المؤسساتي في إطار مساحة تترك لها مجال التدخل السياسي والقانوني، والقضائي، وإن كانت مؤسسة القضاء في بعض الدول التي حصلت على استقلالها في 60 سنة الماضية قد نسخت القوانين الغربية إما أوروبية أو أمريكية وأخذتها كنموذج في قوانينها واعتبرت نفسها أنها قادرة على تطبيق القانون وانه لا أحد فوق القانون، وبالتالي أخذت نظرية استقلال القضاء،لأن القضاء المرجع الأساس والانطلاقة الصحيحة في بناء مجتمع متقدم وحضاري يسعى دائما إلى إحقاق الحق و إظهار الحقيقة والنمو الاقتصادي الناجح الصلب المؤسس على القواعد الصارمة تحت ديمومة المراقبة الفاعلة من خلال روح المسؤولية والعمل الجاد في كل المجالات بالردع والمحاسبة وإنزال العقاب من غير الإفلات منه كيفما كانت شخصية ومكانة المسؤول اجتماعيا وسلطويا وإداريا،قطاع عام و خاص، ولا مجال لاقتصاد الريع لأن مكونات المجتمع سواسية، وهو عبارة عن خلية نحل لا فضل لغني على فقير ولا لقوي على ضعيف، وتلك هو الحكم الرشيد الذي تستعين به الدول للحفاظ على قوتها وكرامتها ومصداقيتها وتقطع من خلاله إلى بر الأمان، والاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، والحرية في التعبير عن الرأي البناء والمساهمة الفعلية لبناء مستقبل الدولة الواعد، بسواعد أبنائها الأحرار المخلصين ذووا المواطنة الحقة والوطنية المتوارثة أو اكتسابها من خلال نظرية الوطن للجميع والثروة للشعب في إطار السيادة للأمة، تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها التي تختارهم عبر صناديق الاقتراع، على أن تساعد الدولة الأمة في اختيار هؤلاء الممثلون لها من خلال التدقيق والتمحيص في المصداقية، والسيرة الذاتية الطاهرة و المطهرة من الشوائب والنقائص الأخلاقية والأهلية، وذلك في
إطار انتخابات حرة، نزيهة وشفافة، وان لا يكون للسلطات انحياز سلبي، بل عليها أن تتدخل كلما لاحظت خللا أو تصرفا يجانب الصواب من طرف المترشح وإنزال العقاب به، أو حتى محاكمته محاكمة عادلة ونزيهة وشفافة، وقضاء عادل، قد تتمكن الدولة من القضاء على جذور ومكونات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، واقتلاعها من جذور المواريث التاريخية، وفي أحداث ومجريات الواقع المعاصر مع تداخل وتشابك الفعل ورد الفعل في المجتمع.
اعتقد أن هذه العوامل التي تمت الإشارة إليها أعلاه من أجلها عملت الحركات الوطنية والتحررية، وضحت بكل غال ونفيس لتعم العدالة الاجتماعية في البلدان التي عانت من ويلات الحروب وقسوة الاستعمار، والحالات التي حصلت على الاستقلال بالأسلوب الكفاحي المسلح هي التي تتمتع بحلاوة الاستقلال، على الرغم من بعض التفاوتات في أسلوب الحصول على الاستقلال وعقائده المعلنة، ومن ذات المرحلة التاريخية فشلت أو انهارت محاولات وتجارب الدول من وحدة إلى أخرى، بمختلف أشكالها، وظلت الدولة الصغرى أو القطرية هي النموذج الساري على الرغم من الأزمة المعقدة حاليا، التي تتداخل فيها السياسة والاقتصاد، على الرغم من الحدود الموروثة التي تحولت إلى حدود سياسية تعبر عن سيادة الدولة بكل القيم والرموز والقواعد القانونية التي يؤطر القانون الدولي والمتعارف عليه، أن الأزمة لا ترتبط فقط بنوعية الفئات الحاكمة وصرعات النخبة وتشرذمها، ولقد سبق لي أن نشرت في الموضوع مقالا مطولا تحت عنوان "لماذا فشلت النخبة السياسية في المغرب" وللاطلاع عليه مراجعة موقع أخبارنا بتاريخ 13/07/2018، قلت، وإنما الأزمة ترتبط أيضا وأساسا استراتيجيا باستمرار فاعلية المتغير الخارجي الأجنبي الذي قبل بوضع الاستقلال السياسي واحتفظ باستمرار ودوام الوضع الاقتصادي والاجتماعي في حالة ارتباط وثيق وتبعية.
إن أزمة الدولة الأم كما تمت الإشارة إليه، بدأت سالفا منذ أن وصل قادة الحركات الوطنية أن تولوا مناصب الحكم والإدارة، وبناء هياكل ومؤسسات الحكم مع التوسع في إنشاء الأجهزة والمؤسسات والإدارات التي كان مفترضا نظريا أن تترجم إلى مسؤوليات ووظائف الدولة المستقلة أو إلى واقع المجتمع، وهذا الوضع هو ورشة الأحزاب السياسية، التي تحاول السيطرة على الحكم وفق نظرياتها الهشة والغير قابلة للتطبيق والتفعيل، وهو الأمر الذي عاكس التطلعات الشعبية والأماني والوعود المرتبطة بمعنى جوهر الاستقلال، ومن هنا يمكن القول أن النخبة السياسية فشلت في صناعة وتوليد التراكمات الضرورية والمناسبة لبناء وتشييد الأسس والبنيات اللازمة للتنمية وبالتالي إشباع التطلعات الشعبية، الأمر الذي جعل مخططات التنمية تتعثر باستمرار وتتغير مع تغير الحكومات والسياسات التنموية والاجتماعية، الأمر الذي جعل عملية التراكم الرأسمالي تتحول إلى عملية تراكم الإثراء الشخصي لبعض القطاعات من الفئات التي زاوجت السياسة بالمال وحصلت على مناصب هامة في هرم الدولة، وهي حالات متعارف عليها تاريخيا، فأصحاب المال هم من
يتحكمون في سياسة الدولة، وإن سمح لهم بالبقاء طويلا في الموقع الاستراتيجي للاقتصاد قد يطمعون حتى في حكم الدولة، ولكن الوقائع والأحداث، دائما تروي فشل الطامعين الخائنين وبالتالي، يخسرون كل شيء، مال، وسلطة، ومصداقية وأهلية، وهذه الفئات قد تستمد قوتها الاجتماعية من علاقتها بالجهاز السياسي والإداري، سواء أكانت تشغل مناصب أم كانت تعمل في ميدان الاقتصاد والخدمات....الخ.، وفي هذا السياق لقد تمت دراسات متنوعة الاتجاهات حول تجارب التنمية، وتعددت الاتجاهات حول تجارب التنمية، وتعددت الاتجاهات الفكرية حول معايير التقييم والأداء، ومن بينها الدخل القومي العام، وعدالة توزيع الثروة من خلال نتائج التنمية، الأخذ بسياسة الاعتماد على الذات، احترام حقوق الإنسان، دعم المشاركة الشعبية، تنمية طاقات وقدرات المجتمع، الحفاظ على القدرات من أجل التغيير والتحولات والتكيف معها لمواجهة التحديات الطارئة والفجائية، غير أن هذه النظرية لم تحظى بدعم كل المختصين، وإنما النجاح يكمن في تجمع اقتصادي إقليمي من منظور بُعد التطور الخارجي الاقتصادي والسياسي، من حيث تشكل الحكومات والانتماءات الإيديولوجية والأدبيات الحزبية.
وبعودتنا إلى موضوع المقال الذي هو الأساس، راقبوا في الشطر الثاني منه، مقاربة الوضع السياسي الاقتصادي والحكومات التي عرفتها المملكة منذ أول حكومة بعد الاستقلال وهي حكومة أحمد بلا فريج ثم وسطيا حكومتا الوفاق الوطني وحكومة التناوب التوافقي، ثم القفز إلى حكومة عبد الإله بنكيران موصولة بحكومة سعد الدين العثماني، لأنهما من حزب واحد، هو حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى رئاسة الحكومة من خلال صناديق الاقتراع سنة 2012، وسنة 2017، وهي السنوات التي عرف خلالها الشعب المغربي تغيرات وتطورات انعكست سياستها على المجتمع المغربي اقتصاديا واجتماعيا، وبالتالي عرف المغرب تجربة جديدة في تاريخه المعاصر.
