د خالد فتحي
* د.خالد فتحي
لا يكف الرئيس التونسي عن المناورة السياسية وخلط أوراق الفرقاء في المشهد السياسي حتى وهو في النزع أو في الرمق الأخير لولايته .فهو يرفض أن يمضوا به مستسلما نحو حتفه او نهايته السياسية التي يقوده إليها بكل قسوة ابنه العاق يوسف الشاهد دون ان يسجل ولو على الاقل موقفا او ردة فعل او حتى تمنعا في وجه "سيافيه" الغنوشي والشاهد .لذلك قرر أن ينتفض و يدعو بشكل مفاجئ لتعديل بعض فصول الدستور على مرمى حجر من الانتخابات الرئاسية المقرر تنظيمها آخر هذه السنة .وهو المسعى الذي جعل خصومه يعتقدون انه يتوخى به إرباك حساباتهم وإسقاط تدبيرهم للإطاحة به ، ولم لا افتعال أجواء مكهربة ضاغطة لا تساعد على إجراء هذه الانتخابات في موعدها إسوة بما يجري امام ناظريهم هذه الأيام في الجزائر القريبة .
ورغم أن محاولة الرئيس تبدو في الوهلة الأولى محاولة يائسة ودون أفق، لأن أي تعديل محتمل للدستور يتطلب وجوبا المرور من مسطرة شاقة وعسيرة هي غير متاحة أصلا .حيث يتحتم عرضه على المحكمة الدستورية.وهي التي يتعطل انتخائها إلى الآن بسبب إخفاق مجلس النواب في تعيين نصيبه من أعضائها .إلا أن هناك من يري في هذه الانتفاضة الأخيرة للباجي السبسي المتعود على المراوغة والتلون والمباغتةرغبة مبطنة في قول أشياء كثيرة يكظمها في صدره. وقد حان أوان قولها .فماهي يا ترى الرسائل التي يود هذا الشيخ الداهية أن تصل للشعب التونسي من خلال تصرفه هذا و في هذا الوقت الدقيق بالذات الذي يعتمل فيه مخاض عسير للرئاسة المقبلة ببلد الزيتونة؟.
في رأينا هناك 3 رسائل سبسية لاغير .اما الأولى والثانية منها فيتوخى بهما الرئيس التبرير ونفي التقصير، بينما يرمي من خلال الثالثة إلى الإفصاح و التقرير:
- اول الرسائل المفرج عنها ، كانت إفهام التونسيين عدم مسؤوليته عن الوضعين الاقتصادي والاجتماعي المتدهوران للبلاد.و اللذان تدحرجت لهما تونس في غضون ولايته هاته بسبب ماسماه التوزيع اللامتكافئ للسلطة التنفيذية المجمعة دستوريا بيد رئيس الحكومة .وهو الخلل المعيق الذي ينتقده و يقترح علاجه في التحوير المرغوب فيه من قبله.فلكأنه بهذا البوح يتنصل من كل ما يعانيه التونسيون اليوم من أزمات جراء غلاء المعيشة، وتدهور القدرة الشرائية ،والبطالة المستشرية بين الشبان والشابات، وضعف الرعايةالصحية وتراجع السياحة ،وانسداد الآفاق ،وخيبة الآمال في المخرجات الاجتماعية للثورة التي ابتدأت عريضة شاهقة كالجبال ثم انتهت دون مستوى متمنيات التونسيين وتضحياتهم .
وبذلك يلمح لهم لحد الصراحة أنه لم يكن يملك لهم من الأمر شيئا . فيكشف جهارا انه كان عاجزا دستوريا خلال ولايته عن أن يكون فاعلا أساسيا في الحياة الاقتصادية للبلاد.وبهذا يرمي بحركة واحدة بكل الإخفاقات في جبة ابنه اللدود يوسف الشاهد الذي تمرد عليه و استأثر بالحكم دونه وكان بالتالي الحاكم الفعلي لتونس.وماكان ليفعل هذا لولا أن الدستور بأعطابه تلك قد اتاح له ذلك.
2-ثاني الرسائل التي يبعث بها الباجي السيسي كونه قد نجح نجاحا باهرا في الحيز من الاختصاصات الذي يسمح له به الدستور، والتي تنحصر اساسا في الدفاع والسياسة الخارجية. فتونس رغم كل المصاعب التي واجهتها ، لازالت تسوق نفسها كاستثناء جميل وكواحة شبه يتيمة في صحراء الديمقراطية العربية. بل هي لا تفتأ تحصد الاعجاب والتصفيق من المجتمع الدولي برمته بوصفها تجربة ناجحة سياسيا وحقوقيا على الرغم من تعثرها اقتصاديا واجتماعيا.زد على ذلك انها تبقى بلدا مطمئنا بالمقارنة مع جيرانها المكتويين بنار الإرهاب والفرقة والانقسام ،فلم تلفحها لحدود اليوم لظى تلك النزاعات والحروب التي تدور رحاها على حوافها الملتهبة .
وبهذا التنبيه أو نقطة النظام التي تمثلها مناداته بالتحوير الدستوري رغم يقينه بعدم إمكانيته تقنيا ، يكون كمن يتناول مشرطا جراحيا بيده ليفصل بدقة متناهية بين السيادي الذي من اختصاصه وأفلح فيه فلاحا باهرا ،وبين الحياتي المعيشي اليومي الذي هو الآن وبقوة الدستور الحالي من اختصاص غريميه الشاهد و الغنوشي ففشلا فيه بشكل يكاد يكون ذريعا.
وهو بهذا التوضيح يبرر كذلك للنساء التونسيات المعجونات منذ عهد الرئيس بورقيبة على حب الحرية والسعي للمساواة الكاملة مع الرجل إخفاقه في معركة الارث .لأن الدستور ايضا منعه تحقيق ذلك مادام يترك هامشا للتأويل تستغله النهضة لتعطيل هذا "القرار الثوري" الذي كان سيكتب "بماء الذهب" لولا هذا الشد والجذب بين دين الدولة الذي هو الاسلام ومدنيتها المضمنان معا جنبا إلى جنب في الدستور .هكذا يبرئ السيسي ساحته ويرتفع فوق كل محاسبة شعبية، ويورط الدستور بدله، بأن يرمي بالفشل على الآخرين لينوء به كاهلهم إن سولت لهم أنفسهم الانتخابات. هذه الخرجة المحسوبة في هذا الوقت الميت من الولاية تطيب في نفس الحين خاطر انصاره ،وتقوي إيمانهم ،و ترص صفوفهم وتمكنهم، وهذا هو الأهم ،من خطاب ينتصرون له وبه في النزالات الآتية.
-الرسالة الثالثة هي تحصيل حاصل للرسالتين السابقتين ونتيجة حتمية لهما. ذلك ان السبسي يفصح لمن اراد ان يفهم ما بين الكلمات من إشارات عن الدلالات السياسية وليس الدستورية لهذا المطلب ، إنه يعلن بالمرموز أنه لا يفكر أبدا في التقاعد السياسي، وانه سيعمل لاجل الاستمرار لولاية أخرى بقصر قرطاج. بل هو من خلال هذا الاقتراح المستحيل الآن يقدم مشروعا ووعودا للولاية المقبلة تتجلى في إعادة إحياء النظام الرئاسي عوض هذا النظام الهجين الذي يخدم في السياق التونسي الإسلام السياسي بأن يترك سلطات واسعة لرئيس الحكومة وهو المنصب الذي تراهن النهضة العارفة بحدود وسقف امكانياتها عادة على الظفر به أو على الأقل التحكم فيه.
السبسي يريد أن يقطع مع المتشابه في الدستور ويحكمه في اتجاه تقوية رئاسة الجمهورية و دسترة العلمانية المؤكدة الملزمة لكل الوان الطيف السياسي أيا كانت مشاربهم. هو يتوخى ان يحرم من توافقوا ضده من لذة النصر ومن توزيع كعكة الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة.، ان ينغص عليهم فوزهم المؤقت عليه بان يقول لهم انه حي يرزق رغم وطأة السنون وغدر المريدين. لكانه يفصح عن رغبته في تحطيم رقم قياسي عربي.ان يكون أطعن الحكام العرب عمرا عبر الماضي والحاضر والمستقبل فإذا كان بوتفليقة ب82 سنة غير قادر على ذلك ، فالسبسي بسنيه 92 لقادر على أن يفلح ويأتي ما لم يستطعه الأوائل.
حزب نداء تونس يعي جيدا يتمه القادم إن تخلى عنه الوالد السبسي.وهذا الأخير لن يترك أتباعه دون تأمين .وقد سبق حين سأل عن نيته في الترشح للرئاسة أن صرح أن لكل حادث حديث.ويبدو أنه قد عثر أخيرا على العلة التي تجعله يتحدى عامل العمر ويقرر الترشح.فهو لم يكن رئيسا كامل الاوصاف كما يريد أن يكون بعد 2019.
لقد بدأت الغيوم تلبد سماء الانتخابات الرئاسية التونسية وتنذر بعواصف ورعود .والسبسي بشخصيته المراوغة قد رمى حجرا اولا في بركة المشهد السياسي .و قعد بانتظار الارتدادات مما سيجعل الأمر أكثر تشويقا وإثارة في المقبل من الأيام والشهور الفاصلة انه يدفع بالآخرين إلى أن يكشفوا أوراقهم. وهو الانكشاف الذي إن حصل ، قد يجعله يختار رئيسا بالتوافق من قبل كل خصوم اليوم حتى قبل ان تجرى الانتخابات.
*بروفيسور بكلية الطب بالرباط دكتور في العلوم السياسية.
