الرئيسية | أقلام حرة | ما بعد الحداثة، مكانة الشعب، وسؤال قيادة التغيير؟

ما بعد الحداثة، مكانة الشعب، وسؤال قيادة التغيير؟

بواسطة
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
ما بعد الحداثة، مكانة الشعب، وسؤال قيادة التغيير؟
 

نتابع بجدية بالغة، وبحس وطني شديد، خطابات وتصريحات القيادات السياسية والإدارية والنخب الرسمية في مرحلة دولية حساسة جدا، تحولت من خلالها الأحداث المتراكمة إلى سم قاتل، اعتبرها المفكرون مرحلة موت أو انحطاط الحداثة. إنها في حقيقة الأمر مرحلة احتضار كل مقومات هذه الأخيرة الإيديولوجية وتجلياتها، وانطلاق فترة بحث عن مقومات نهضة جديدة، يمكن تسميتها بفترة الحداثة المتأخرة، بانتظارات وتطلعات كبيرة تستدعي التشخيص الدقيق، للدخول إلى مرحلة موالية لم يتم تسميتها بعد، لتنعت مرحليا ب"ما بعد الحداثة".

 

إنها مرحلة يعيش فيها الشعب، كمجتمع غير رسمي، في عالم خاص منعزل بشكل مقلق ومثير للخوف، عن النخب التي تمكنت، بآليات معينة، من احتكار السلطة والحق في الكلام. إن المجتمع، الذي يعتبر نفسه مجتمعا رسميا، وهو المجتمع الذي يتم تصنيفه بمجتمع الأنتيليجانسيا (عدد من النخب السياسية، ومن الصحافيين، ومن الأساتذة الجامعيين.......) لا زال يتعمد، بقصد أو بغير قصد، ترويج تفوق مكوناته في الإلمام بمنطق قيادة التغيير وضمان الاستقرار. إنه يروج ذلك جاهلا أو متجاهلا كون الأسس المميزة لحقبة الحداثة التي امتدت من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن العشرين في العالم الغربي، والتي يتم تجريبها في بلد كبلادنا، قد تجاوزتها الأحداث. فقيم الفردانية والعقلانية، وإيديولوجية استغلال الإنسان مجددا من طرف الرأسمال من خلال اعتباره مركزا للكون بدلا من الله زمن سيطرة الكنيسة قبل القرن السادس عشر، قد تجاوزها الركب الحضاري الإنساني، ليتم إعطاء الانطلاقة لمسار إحياء أشكال جديدة لتنظيم الشعوب كالطائفة والقبيلة والعشيرة، وسيطرة العواطف.

 

إن الشعب، الذي أصيب بخيبة أمل من التكنولوجيا في البداية، أصبح اليوم مغمورا بالفرحة نتيجة الخدمات الكبيرة التي تقدمها له في بحثه عن خلق جماعات متشابكة، التي كانت تسمى في القاموس القديم طوائف أو قبائل أو عشائر. لقد سادت منذ منتصف القرن العشرين ثلاث مقومات جديدة، لها جدور في الماضي، لكنها خضعت للتحديث لمدة تجاوزت أربعة قرون، مقومات بسلطة كبيرة تتحكم اليوم بجلاء في سلوكيات الأجيال الجديدة، المكونة لأكثر من 70 بالمائة من سكان الدول شمالا وجنوبا، منها أولا الطائفية

 

(tribalisme ou communautarisme)، والترحال (nomadisme) أو الهجرة (migration) والنفعية التي تسببت وتتسبب في صراعات ما بين الطوائف المشكلة والمنظمة.

 

لقد وصلت حقبة الحداثة إلى مرحلة الإشباع، وهذا الأخير، وما أثاره من مواقف وسلوكيات جديدة، لا يجب أن يثير الخوف من "الشعب"، ولا أن يسمح، من باب الطمع في الركوب على الأحداث، بتطويل مرحلة "الشعبوية"، أو بروز نوازع استبدادية أو تسلطية.

 

إن الشعب هو مصدر السلطة، والمطلوب من الفاعلين، بدل الخوف منه، أو تهديده أو وصفه بأوصاف معينة، فتح المجال للبحث العميق من أجل فهمه، والتفاعل معه ومناقشته في قيمه الجديدة، والتنظير لمقومات تعطي لمفهوم الديمقراطية مدلولا يتماشى ومتطلبات العصر. إن اللجوء إلى العنف المادي أو اللفظي هو في حقيقة الأمر تعبير عن ضياع أو هدر للوقت التنموي في مراحل سابقة، أو عن تقاعس في اتخاذ القرارات السياسية المناسبة لتغذية الفهم الصحيح لواقع ومسار الشعب وتغير ميولاته. لقد أصبح مصنفا في خانة الغرور من يدعي "المعرفة التامة بالفعل المسبق"، وأصبح واقع "الشعب" يفرض المصاحبة، وطرح التساؤلات الملائمة، للرفع من جودة التنشيط السياسي والثقافي والفني والاقتصادي لمجالات العيش المشترك. فالإرهاب، بمنطقه الدموي الملغي للآخر، والنضال من أجل المساواة بين الجنسين، لا يمكن اعتبارهما إلا ظاهرتين عابرتين بالرغم ما تثيره من معاناة وعنف. فالشعوب عامة تبحث عن عالم جديد يحتفظ بالجذور التاريخية، وتستحضر الاستفادة من انجازات حقبة الحداثة، طامحة في بلورة مفهوم جديد للمدينة. أما الأجيال الجديدة، بذكورها وإناثها، تتواجد جنبا إلى جنب، وتتفاعل بقوة، وتتواصل بدفق كثيف للمعلومات، ولا تعير أي أهمية للنضال من أجل المساواة، لكونها تكرسه في ممارساتها واهتماماتها اليومية.

 

 

بالنسبة لنا، فنظام بلادنا الملكي، الذي تجاوز عمره إثنى عشر قرنا، قد توفق في إنجاح المرور السياسي للشعب المغربي من حقبة إلى أخرى. فخطب جلالة الملك محمد السادس تعبر بجلاء عن حاجيات المرحلة وآفاقها (حاجيات شباب مغرب اليوم المختلفةعن حاجيات مغرب الأمس). المطلوب اليوم من الأنتيليجانسيا هو تعميق البحث لفهم التطلعات الجديدة لأجيال الشعب المغربي، وبذل الجهد المطلوب للاستجابة لها، وتحويل إعلان إعطاء الانطلاقة لبلورة نموذج تنموي جديد في هذا التوقيت بالذات إلى مناسبة حقيقية ذات دلالة هامة جدا، وتعبير حقيقي عن وعي الدولة برهانات وتحديات المستقبل.

مجموع المشاهدات: 650 |  مشاركة في:

الإشتراك في تعليقات نظام RSS عدد التعليقات (0 تعليق)

المجموع: | عرض:

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

من شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات

مقالات ساخنة