علي بوشنتوف
لا ريب أن كل باحث و مثقف و دارس و طالب و شغوف بالفكر و الفلسفة يتذكر لحظة رحيل هرم الفكر الفلسفي "محمد عابد الجابري" , فهو الغائب والحاضر في الآن نفسه, إذ كلما اقتربت ذكرى رحيله – رحمه الله- تذكرناه بعلمه و مشروعه الفكري الضخم الذي قدَّمهُ في نقد العقل العربي , و هو الداعي إلى العقلانية و النهضة و التنوير و التحرر, لقد كان كما قيل : " مالئ الدنيا و شاغل الناس" في حياته و بعد مماته , بحراكه الفكري و مقاربته العقلانية للنسق الفكري والديني و الاسلامي .
لقد كانت حياة الجابري – رحمه الله- حافلة بالجهد الفكري و الفلسفي, حيث كان من الذين حفروا على الصَّخر بنظرته الدقيقة للتراث و علاقته بالحاضر ,فغالبا ما كان يُغَلِّبُ المسار الفكري و العلمي على مسار السياسة , فجعل المدخل الإبستيمولوجي هو المدخل الأنسب , لا السياسي و الاقتصادي , لأنه تفطَّن إلى أن تحقيق النهضة و التنوير و التحرر لا يتأتى إلا بالنسق الإبستيمولوجي لا الإيديولوجي ,من أجل نهضة فكرية و معرفية , لذلك عاش – رحمه الله – هذا الهمّ و انشغل به أيّما انشغال في جل أبحاثه و كذا مشروعه الضخم " نقد العقل العربي" زهاء نصف قرن, حيث وجد أن المنفذ الخلدوني هو السبيل إلى هذه الرحلة الفكرية الشاقة , إضافة إلى "ابن سينا" و " ابن رشد" , و قد ظهر هذا جليا في كتابه " نحن و التراث".
إن الغاية السامية التي خطط لها الجابري في مشروعه الفكري لقراءة التراث و النبش فيه و سبر أغواره, ليست نظرة إلى فهم الماضي فحسب , بل الأسمى من ذلك كله هو فهم الحاضر و رسم خطة واضحة المعالم عقليا و فكريا لتحقيق نهضة شاملة لكل المجالات , فقد كان يرى أن نقد العقل هو اللبنة الأولى لكل مشروع يخص نهضة الأمة , فالنقد الذي كان يدعو إليه ليس نقدا من أجل النقد , بل هو نقد من أجل التحرر و التنوير و النهضة, و هذا كله يستند إلى عقل متحرر له بُعد نظر و دقة تحليل و نظرة متبصرة للحاضر
و المستقبل ,لا التقوقع في الماضي فقط و انتظار تحقيق النهضة , بل يلزم إعمال العقل لنقد العقل العربي.
لم يسلم محمد عابد الجابري من نقد نقده للعقل العربي من عدة مفكرين أمثال " جورج طرابيشي" و " طه عبد الرحمان" , و نحن نعلم ما للرجلين من ثقافة واسعة في الفكر و الفلسفة, و لهما أيضا وزن في الساحة الفكرية , فكانت هذه الموجة النقدية التي تعرّض لها الرجل تدل على مكانته الفذة التي بلغها بفكره العقلاني الخالص و مواقفه التي صرَّح بها في جل كتاباته. كما أصبحت شهادة علمية يعتز بها بنفسه, و يعتز بها مناصروه أيضا , فلم يكن – رحمه الله – رجُلَ فكرٍ فحسب , بل فِكر في رجُل .
إنَّ نقد جبل شامخ في الفكر العقلاني و الفلسفة ,يدل على ثبات هذا الجبل الذي نراه شامخا من تحت و من فوق. هكذا أصبحت " الجابرية" مرجعا لا بد منه لكل تفكير نقدي و عقلاني. فأفضل ما يُمكن أن نُقدمه للرجل من عِرفان هو قراءة إرثه الفكري و مدارسته و التمحيص فيه .
