سعيد المودني
كما مضى في المقال السابق، للاستبداد أركان يقوم عليها ولا يستمر إلا بتوفرها. منها الركن الخالص، ومنها الركن الناتج عن التدوير، والذي يصبح نتيجة وركنا داعما حاملا حاميا في نفس الوقت.. وهي تشمل مجال ضبط الناس بالقوتين الناعمة والخشنة المادية والمعنوية، وما يشمل ذلك من حقول الإعلام والتوجيه الديني والتربوي، كما تشمل مؤمّني الضخ المادي والسيطرة الاقتصادية، وينتج عن ذلك كله مسخ مدجن من الناس يصبح هو أهم ركن لأنه يشكل أكبر قاعدة تشكل سياجا واقيا بعيدا..
والأركان توضع لتحمل محمولا يتربع على عرشها.. وهو في حالتنا المستبدون الجاثمون فوق صدور الملايين الثلاث مئة ونيف في هذا المعتقل الكبير المسمى الوطن العربي، سواء بوجه الفاعل الحقيقي في السر والعلن، أو بصفة الطرطور، نائب الفاعل الذي أجّر اسمه وصورته وإمضاءه لمن يستعملها في الحصون التحت-أرضية، أو بصورة ممثل التحالف أو الشركة المساهمة المستولية على البلدان، المختطِفة لقراراتها.. لكن المسؤول أمام الناس هو الظاهر المعلن، وإن كان لا يملك من أمره شيئا، ما دام رضي أن يلعب دور الكومبارس.. وعليه يبدأ التقييم أو دراسة الحالة -في كل كيان- من ممثله، أي رأس الدولة..
وربما تكون أمكنُ وسيلة للتقييم هي إجراء مقارنات. والمقارنات يمكن أن تُعقد على ثلاثة أصعدة: مقارنة ذات بعد تاريخي تؤسس لمعايرة النظام القائم حاليا مع نظام سبق أن قام في نفس الجغرافيا المعنية. ويمكن أيضا أن تكون على مستوى الجغرافيا بحيث نقايس فيها حالات كيانات متعاصرة متماثلة نسبيا في المقدرات. كما يمكن أن تكون ذاتية بحيث تقام على صعيد نفس التاريخ ونفس الجغرافيا، ويكون المعيار هو المتاح والمحقق، وأيضا قياس تفاوت نسبة الاستفادة بالنظر إلى الموقع والقرب أو البعد من الطبقة السياسية أو ذوو النفوذ بشكل عام..
وإذا كانت المقارنة التاريخية يصعب التوافق حولها بزعم تغير المعطيات الحضارية، والمقارنة الذاتية ذات المعيار المرجعي المطلق لن يتقبله المعارضون بدعوى "صعوبة الإثبات"، فإن الصافي من كل الشوائب هي المقارنة الجغرافية المعاصرة حيث الكل يرى ويُرى..
سعيا لتضييق مجال الاختلاف في الحكم، فإن هذه المقارنة لن تكون عميقة، كما أنها لن تغوص في الجوانب الحضارية ومكوناتها العلمية والتقنية والتربوية والهيكلية في المجالين المادي والمعنوي. بل لن تتعدى جوانب الاستشهاد المتعلقة بموضوع المقال: مقارنة زعماء الاستبداد بقادة الديمقراطية والنتائج المترتبة على مستوى المظاهر والبنيات المؤسساتية، وإنما ستكون سطحية مقتضبة مجملة، تتناول فقط العموميات وما يعرفه القاصي والداني، المهتم والمتجاهل، ويراه الأعمى ويسمعه الأصم..
القاعدة العامة القارة المؤطرة للمسألة أن مقارنة ممتلكات وسلوكات مسؤولينا بنظرائهم في الدول المتقدمة يظهر أن الفرق في ذلك بينهم يتناسب عكسيا مع الفرق الحضاري والعلمي والتقني بين بلدانهم وبلداننا.
وفي بعض التفاصيل، يقابل إصرار حكامنا على العصمة المطلقة والصواب الأبدي والحكمة السرمدية والشرعية الأزلية، يقبل ذلك عند مسؤولي الدول المتقدمة اعتراف بالخطأ وانقياد للاعتذار بما يترتب عنه من لجوء إلى الاستقالات والخضوع للمحاكمات. أما نحن فلا وجود لمفهوم الاستقالة عندنا ولو لعون، ولا يحاكم المسؤول ولو نهب بلدا ودمر بنيانه وأباد أهله،، وقد فعلوا..
في الدول المحترمة ترتكب أخطاء مقصودة أو عفوية، مؤسساتية أو فردية، اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية... فيسمح للشعب بالتعبير عن احتجاجه وسخطه بمظاهرات مؤطرة، فإذا ما انحرفت عن مسارها، ووقعت مواجهات لسبب من الأسباب، فإن الضحايا غالبا ما يكونون -وهم قلة جدا- من رجال الأمن قتلى كانوا أم جرحى.. أما في حظائرنا المعربة فلا يُعترف بالخطأ، ولا يسمح بالاحتجاج عليه
البتة، فإذا ما خرج شعب إلى الشارع، تحديا، فإنه غالبا ما تكون هناك مواجهات دموية، نتائجها القتل والجرح الخطير، في صفوف الكثير من المدنيين طبعا، ويُختم المشهد باعتقالات عشوائية تطال البقية الباقية من الشعب ليتعرض لمحاكمات مسرحية جائرة..
مسؤولوهم بسطاء، مرتباتهم وممتلكاتهم عادية قبل تولي المسؤولية وبعدها، وسلطاتهم مجددة بطريقة شرعية.. أما عند أنظمتنا فكل ما ذكر مقلوب سواء من حيث التواضع أو المرتبات أو الممتلكات -بعد تولى السلطة- أو حدود السلطات ومدة وكيفية الاستمرار فيها..
المصاريف الكبرى لدولنا واهتمامها الأعظم ينصب حول حراسة المسؤولين وتوفير البذخ والترف لهم، بل إن جيوش حراسة أمن المسؤولين أكثر من جيوش حراسة أمن الحدود..
المخابرات في الدول المتقدمة يتم تكوينها وتدريبها للتجسس على الدول المعادية، أما النظم المتخلفة فلديها فقط "الشكامة"، تدربها لتتتبع حركات المواطنين والقبض عليهم وتلفيق التهم لهم: دول خائفة، بل مُرعبة، من مواطنيها منهم، ما هو سبب الخوف والشك والوسواس يا ترى؟؟!!!..
جيشهم يقاتل وراء البحار بعيدا عن البلاد بمئات أو آلاف الكيلومترات، حتى يردع العدو ويجلب الهيبة والرخاء، ويبعد أي حرب فوق ترابه يمكن أن يصيب بعض دمارها شعبه، أما لدى العرب، فعدا عن الانقلابات والتحالف مع النظم القائمة في مواجهة الشعوب، والقيام بدور "الأمن الداخلي" في مواجهة الثورات والانتفاضات، واستغلال كل مقدرات البلاد، الاستحواذ على الرخص والامتيازات، والاستيلاء على مصادر الثروات، اقتحام المؤسسات واحتلالها من أجل الاصطياف أو التنزه، تبذير المال على الأسلحة والتدريبات والسفريات... غير هذا،، هل هناك دور للجيش العربي؟؟!!!.. هل يستفيد بلد ولو بأدنى صورة من هذا العسكر؟؟!!!...
يتبع..
