رشيد بلدي
تتوالى منذ شهرين القرارات الحكومية الارتجالية والخاطئة بخصوص تدبير جائحة كورونا، مما خلق انطباعا لدى الناس، عامتهم وخاصتهم، بأن الحكومة هي بصدد فقدان السيطرة على الوباء، وأنها تقود الوضعية الوبائية نحو المجهول.
ومن ضمن هذه القرارات التي صدرت خلال الأسابيع الماضية والتي تؤشر على درجة الاضطراب والتخبط الحكوميين في تدبير الجائحة نجد القرارات التالية:
1- القرار الحكومي الذي سمي ب " المرحلة الثالثة من تخفيف الحجر الصحي" والذي صدر يوم 19 يوليو 2020 والذي أجاز للناس التنقل بمناسبة العيد. هذا القرار كان كارثيا بكل المقاييس، فالقرار لم يستحضر لا الوضعية الوبائية المتفاقمة، ولا الآثار الوخيمة التي كانت ستنجم حتما عن تنقل الآلاف من الناس، وضمنهم أعدادا غير معلومة من حاملي الفيروس، بغية الاحتفال بالعيد رققة أهاليهم. واليوم بدأنا نلمس أولى تبعات هذا القرار من خلال ما تفصح عنه وزارة الصحة من أرقام تشير إلى ارتفاع كبير في عدد الإصابات في مدن ومناطق لم تكن تسجل إلا عددا محدودا من الحالات الجديدة والمؤكدة مثل الرشيدية ومكناس وبني ملال وأكادير.
ولقد أشرت، مثل غيري، إلى خطورة هذا القرار وتبعاته قبل حدوثه عبر خطوط على هذه الصفحة مما يطرح سؤالا عريضا وهو: إذا كان المواطن المتتبع للشأن العام قد أدرك خطورة هذا القرار المهدد للصحة العامة قبل تنزيله، فلماذا انعدمت حاسة التوقع لدى القيمين على الشأن العام رغم كل الإمكانات المادية والبشرية المتوافرة لهم؟
الجواب قد يحيلنا على آليات اتخاذ القرار على المستوى المركزي والمحلي وما يشوبه من اختلالات إدارية وسياسية شتى، كما يحيلنا على إشكالية أكبر تتعلق بمدى مساهمة النخبة الحقيقية المالكة للدربة السياسية والنظرة الثاقبة لبواطن الأمور في تدبير الشأن العام. فرب مجتمع لا يستفيد من نخبه مثل بدن يعاني من ضعف الامتصاص la malabsorption، فيعجز جسمه على امتصاص ما يكفيه من فيتامينات وبروتينات وأملاح وغيرها، فيتمكن منه المرض والضعف، وقد يقضي عمره يعاني صحيا ويرهق نفسه بالتساؤل يوميا عن السبب ما لم تهتد إحدى الكفاءات إلى تشخيصه.
2- القرار الثاني جاء بعد تأكيد السيد رئيس الحكومة أمام البرلمان ما سبق أن أعلن عنه يوما قبل ذلك في ندوة صحفية بمشاركة وزير الصحة من أن للناس الحق في التنقل بمناسبة العيد. ثم عادت الحكومة بعد ذلك بأيام معدودة، بعد أن أدركت متأخرة خطورة القرار الصادر عنها، لتنسخ القرار الصادر عنها عبر ما يمكن نعته ب " كارثة الثانية عشرة ليلا" والتي يمكن اعتبارها – دون حاجة للوقوف عند تفاصيلها التي تابعها الجميع و ما تسببت فيه من أضرار مادية ومعنوية يصعب حصرها- أنها بحق صك فشل كل مكونات الدولة – وليس الحكومة فقط – في إدارة هذه الجائحة خاصة في مرحلتها الثانية التي بدأت بعد الشروع في الخروج من الحجر الصحي الشامل.
- القرار الثالث - وهو أكثر خطورة من القرار السابق- هو القرار الصادر عن وزارة الصحة بعلاج المصابين الذين لا تظهر عليهم أعراضا، ولا يعانون من أمراض مزمنة بمنازلهم، وهو ما اقتضى إفراغ كل المستشفيات الميدانية ومراكز الإيواء من هؤلاء المرضى الذين عادوا إلى منازلهم من أجل " متابعة العلاج" بعد استيفاء بعض الإجراءات الإدارية الروتينية.
وحتى نكون منصفين في تناولنا يتعين أن نعيد طرح وجهة نظر وزارة الصحة في الموضوع عبر تصريح ممثلها د. معاذ المرابط والذي أكد أن اتخاذ هذا القرار مشروط بوجوب استيفاء بعض الشروط وهي:
- التوفر على غرفة جيدة التهوية.
- عدم وجود أشخاص في وضعية صحية هشة يقيمون في نفس المنزل.
- موافقة المريض على تتبع العلاج في المنزل.
ولتبرير هذا القرار أكدت وزارة الصحة على لسان د. المرابط أن " جزءا كبيرا من الحالات من دون أعراض ترفض أن تتلقى العلاج بالمستشفى في ظل غياب علامات سريرية عليها، وأنها في حالة جيدة. فهؤلاء يعتبرون أنفسهم أنهم ليسوا مرضى ومن الصعب إقناعهم بالتكفل بهم في المستشفى".
حينما نتمعن في هذه الشروط والأسباب المعتمدة لاتخاذ القرار نلاحظ أن الواقع في واد والحكومة في واد آخر.
أن القرار السياسي، مثله في ذلك مثل كافة النصوص الإدارية والقانونية، لا يصدر منفصلا عن الواقع المجتمعي العام الذي يفترض أن يستمد منه مادته ليعود إليه قصد تدبير إحدى إشكالاته وحل بعض أقضيته. لذلك فإن قرار العلاج في المنازل كان يقتضي قبل اتخاذه الإجابة على الأسئلة التالية:
- هل السلوك العام لدى عامة الناس يغلب عليه الانضباط والالتزام والوعي بالمصلحة العامة، أو يغلب عليه التفلت ومحاولة التحلل من المسؤولية؟
- هل درجة الوعي الصحي العام لدى الناس، متعلميهم وأمييهم، تسمح بتحملهم مسؤولية متابعة علاجهم في المنازل دون خوف عليهم وعلى محيطهم؟
- هل نتوفر على الإمكانات المادية والبشرية والتقنية لجمع كل المعلومات عن كل ظروف هؤلاء المرضى ومتابعة علاجهم في بيوتهم سواء مباشرة أوعن بعد ؟
- هل فعلا يتوفر هؤلاء المرضى الذين أعيدوا إلى منازلهم، ومن لحق بهم بعد ذلك من مصابين جدد، على غرف جيدة للتهوية وحمامات مستقلة عن باقي أفراد الأسرة؟
إن الجواب على هذه الأسئلة يقود كل واحد منا إلى تقييم موضوعي للقرار الحكومي بمتابعة العلاج في المنازل. فإذا كان الجواب بالإيجاب فالبلد على الطريق الصحيح لاجتثاث المرض، أما إذا كان الجواب بالنفي فإن هؤلاء المصابين الذين يعدون بالآلاف سيتحولون إلى وسائط لنقل الفيروس داخل أسرهم وداخل الأسواق وفي الأزقة والشوارع ووسائل النقل إلخ...وهلم نقيم الأضرار الناجمة عن ذلك لنضيفها إلى الأضرار الأخرى المترتبة عن السماح بتنقل الناس بمناسبة عيد الأضحى ثم محاولة الإحجام عن ذلك عبر كارثة الثانية عشرة ليلا.. فلو أردنا عدها لصعب حصرها.
إن هذه القرارات المتعاقبة والخاطئة لا تثير مسؤولية الحكومة السياسية فقط بل تجعل مسؤوليتها القانونية قائمة أيضا بالنظر إلى أنها كلها تشكل خطرا على الصحة العامة وتعرض مئات الآلاف من الناس للخطر.
وعلى سبيل المثال فقد تابعنا عدد الشكايات التي تقدمت بها العديد من المنظمات المدنية في فرنسا ضد حكومة إدوارد فيليب، الوزير الفرنسي السابق، سواء أمام محكمة العدل الفرنسية la Cour de justice أو أمام النيابة العامة. فقد بلغت عدد الشكايات المقدمة أمام محكمة العدل وحدها تسعين شكاية تعلقت كلها بما اعتبره المشتكون " سوء تدبير الجائحة" خاصة ما تعلق بما تم تسجيله من نقص كبير في عدد الكمامات مما ساهم في تعريض المواطنين للخطر،
بالإضافة إلى ما شاب العمل الحكومي من تردد في اعتماد بروتوكول علاجي محدد لتفادي تدهور الحالة الصحية للمرضى، ووصولهم لمرحلة الإنعاش، وهو ما أسفر عن تحريك متابعة في حق الوزير الأول ووزيري الصحة AgnèsuzynوOlivier Véran من أجل "الامتناع عن محاربة كارثة" « abstention de combattre un sinistre » والمعاقب عليها بسنتين حبسا و 30.000 يورو كغرامة.
إن المواطن يقدر المجهودات الجبارة التي بذلت خلال بداية الجائحة ويثمنها، كما إننا نعلم الصعوبات والإكراهات المادية والبشرية ونأخذها بعين الاعتبار، ولكن هذا لا يبرر سلسلة القرارات الخاطئة والتي أضحت تشكل خطرا حقيقيا محدقا بالأمن الصحي العام. فالصعوبات المالية التي يقتضيها تحمل الدولة لكل تكاليف الإقامة والعلاج لآلاف المواطنين لا يجب أن تحملنا على المجازفة بالصحة العامة، والزج بالمواطن حيث لا يجب، بل تقتضي منا البحث عن حلول حقيقية نتجاوز بها الصعوبات الطارئة، دون إخلال بواجب التصدي للوباء بالصرامة اللازمة التي افتقدناها منذ نهاية شهر أبريل ونحن بعد تحت الحجر الصحي الشامل مما أوصلنا لما نحن فيه.
إن المتتبع للشأن العام يعلم أن الزمن السياسي في المغرب ظل شبه متوقف عند الزمن الانتخابي منذ أربع سنوات، لذلك نلاحظ أن إجازة كل قرار وكل قانون وكل مشروع لا تتم إلا بعد تقييم آثاره الانتخابية .. ولنا في مقترح القانون المتعلق بواجبات الكراء المستحقة خلال فترة الجائحة والذي ظل في الرف مثال ضمن أمثلة أخرى كثيرة.
اليوم الوضع صعب، وتداعيات الحالة الوبائية من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية أخطر من الوباء، خاصة وأن التوقعات تنبه إلى أن الآلة الحاسبة ستستمر في عد الخسائر إلى منتصف السنة القادمة. لذلك يكون من الواجب تدخل الدولة، الماسكة الحقيقية بزمام الأمور، لتصحيح الوضع بعد الإفصاح عن الوجهة التي يتجه لها البلد والتي لم تعد معلومة للكثيرين، وتبني الصرامة اللازمة في محاربة الوباء، وتوفير الإمكانات البشرية والمادية التي تسعف في ذلك، وفرض إيقاع حكومي متناغم لا يحتمل نقطة نشاز واحدة بعيدا عن أية حسابات حزبية وانتخابية تتعارض مع المصالح العامة للبلد.
